قبل أن تصبح المدن شققًا مفروشة؟
قبل أكثر من عقد من الزمان كتبت مقالا عن المشاريع البطريقية، وهي التي تحاكي البطريق حين يقف على حافة الجليد ويبدأ أحدها بالقفز إلى البحر، وما هي إلا لحظات ويمتلئ البحر من تلك البطاريق في منظر عجيب في سرعة نزولها بعد بدء الأول، وهذه المشاريع البطريقية تفتقد في مجملها دراسات الجدوى، وتنتقل كما العدوى في المدن والقرى، وتنتشر في الطرق التي تشق الأحياء بما حواه التخطيط العمراني من سهولة لانتشار العدوى في تلك الطرقات في عرضها وطولها، من محال الخياطة مرورا بكبائن الاتصالات ومحال الجوالات وانتهاء بالشقق المفروشة، يفوز بطعمها الأول، ويتجرع غصصها الأخير، وكما قيل فاز باللذة الجسور.
فما إن يتكامل بناء مبنى على شارع ثلاثيني إلا وتبدأ أعمال التكسير لتحويله إلى شقق مفروشة في عمل دؤوب، وتحول مذهل لكل المباني والوحدات السكنية التي كان من الممكن أن تكون شققا سكنية غير مفروشة لتصبح وحدات سكنية مفروشة، وتبدو الشقق المفروشة بديلا مناسبا للأسرة السعودية، حينما تسافر في داخل المملكة، إذ إن كثيرا من الفنادق لم تكن تناسب الأسر من جوانب عدة، إذ هي أعدت في معظمها للأعمال واجتماعات العمل والندوات، ولم تهيأ ألبتة لاستقبال العائلات، لذا كان العزوف عنها كبيرا ونسبة الإشغال للفنادق في نظري أنها لا تتناسب مع حجم المدن في المملكة.
وبذلت الهيئة العامة للسياحة والآثار جهودا مشكورة في تصنيف تلك الشقق، حيث وضعت درجات ثلاث للتصنيف، فالدرجة الأولى تكافئ إلى حد كبير الشقق الفندقية الراقية، التي ـــ في نظري ـــ سترفع من مستوى تلك الشقق حتى يكون هناك اتزان بين ما يدفعه المرء وما يحصل عليه من خدمة تقدمها إدارة تلك الوحدات السكنية، ولست بصدد الحديث عن المستويات ومقارنة ما يقدم بما يؤخذ، إذ إنني لست متخصصا في هذا المجال.
غير أن الذي أود الإشارة إليه هو إدارة تلك المشروعات، وأن النمط العمراني الذي ينتهج يصاب بالفشل، وذلك لما تفتقد معظم مشاريعنا ـــ مع الأسف ـــ دراسة للجدوى، كما ذكرت في مقدمة المقال، وأن تلك المشروعات يتم حساب التكاليف والأرباح بحاسبة الجوال، فيقسم ويطرح بجهاز الجوال ما يمكن أن يصرفه، ومن ثم ما يتحصل عليه وبعدها يرسل رسالة جوال إلى زميل أن يتشارك معه في هذا المشروع الناجح الذي استطاع أن يحسب بسرعة تكاليفه وعوائده الكبيرة، ولذلك تتحول أكثر الطرق إلى شقق مفروشة، وذلك أن الاشتراطات للمبنى تكاد تنطبق على كل شوارع الثلاثين في أكثر في المدن، وبعد فترة تبدأ الإخفاقات في الإدارة، وتظهر المشكلات في التشغيل والإدارة والتسويق.
إن الاستثمار في تلك المشاريع هو ليس المبنى فقط، بل ما تتبع ذلك من إدارة التسويق والاعتناء بمستوى الدرجة التي حصل عليها، لذلك فإن هذه المشاريع قد تبدأ درجة أولى وتنتهي إلى الثالثة أو تصبح خاوية على عروشها تسدد فقط رواتب العمال، وما يفيض يُعطى للمغسلة وسداد الكهرباء وغيرهما وكأننا استقدمنا العمالة لنفتح لهم تلك الشقق ليسكنوا فيها.
وأمر آخر هو أن هذا النمط العمراني من السكن يفترض أن يكون ترفيها لا أن يكون كما البيت، إذ ما الفرق بينه وبين ما يقطنه المرء في حياته الاعتيادية! لذا كان من المفترض أن تكون لتلك الوحدات السكنية أماكن ترفيه كالمسبح أو الحديقة أو الألعاب، حيث إن معظم قاطني تلك الوحدات هم من جاءوا إليها وهم في حاجة إلى تلك الفراغات التي تضيف إليها جوا ماتعا للمكان بدل أن يصبح حبيس الخرسانة في كل وقت وحين حتى في الشقق المفروشة.
إن تبني مشروعات إدارة تتملك تلك الفرص وتمحصها وتضع لها الخطط التشغيلية وتعمل لها الخطط لتسويق خدماتها، على أن تضيف إلى تلك الفرص قيما مضافة ونمطا نمتاز به، يجعل تلك المشروعات ذات مردود اقتصادي على الفرد وعلى المجتمع بما تحويه من إدارة مؤسسية لا فردية يقذفها الموج في كل مكان.