الضمان الاجتماعي والتكافل الاجتماعي من أولويات المذهب الاقتصادي في الإسلام
يُعتبر الضمان الاجتماعي، أو ''تمام الكفاية'' كما يصفه بعض الفقهاء، من أولويات المذهب الاقتصادي في الإسلام، وعلى هذا ''الضمان'' تكاد تقوم مختلف أحكام المذهب وتطبيقاته.. فمشروعية الملكية في الإسلام، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، إنما تهدف إلى توفير ''حد الكفاية'' للإنسان، كحق إلهي مقدس، قال تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)، فكفالة المحتاج، الذي لا شيء له يقوم بأوده وكفايته، واجب (ابن كثير)، لا أن يُترك الإنسان لما سماه الغرب ''القوانين الطبيعية''.
وإذا كانت فكرة الضمان الاجتماعي قد استقرت في المجتمعات الغربية، كقرار سياسي، نتيجة لضغوط اجتماعية، شكلت تهديداً لأمن واستقرار تلك المجتمعات، التي أقرته بشكل رسمي سنة 1941، ويُعرَّف، كما في ''الموسوعة السياسية''، على أنه: ''نظام يهدف إلى إعالة الأشخاص العاجزين عن تأمين عيشهم، لأسباب صحية وعائلية واجتماعية، خارج إرادتهم''، فإن الإسلام، سبق الغرب في إقامة ضمان اجتماعي يفرضه الدين، وتنظمه الدولة، مؤكداً على قدسية هذا ''الضمان''، المقصود منه الحق الثابت للفقراء في أموال الأغنياء، وإلزام الدولة بتحقيقه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). لذلك، تُعدّ الزكاة، أول تشريع منظم في سبيل ضمان اجتماعي، غايتها، تحقيق الكفاية لكل محتاج: في المطعم والملبس، والمسكن، وسائر حاجات الحياة، وليس ذلك خاصاً بالمسلم فقط، بل يشمل من يعيش في ظل الدولة الإسلامية من اليهود والنصارى.. فقد أقرَّ خالد بن الوليد، في صلحه مع نصارى الحيرة في العراق، تأمين هؤلاء ضد الفقر والمرض والشيخوخة، من بيت مال المسلمين، واعتبر البعض هذا التأمين، أول ضمان اجتماعي من نوعه في التاريخ.
إنّ الضمان الاجتماعي، أو ''حد الكفاية''، في الإسلام، تعبير عن حق أفراد المجتمع في موارد مجتمعهم، وهذا ما تُبيّنه الآية السابعة من ''سورة الحشر''، التي تُحدّد وظيفة ''الفيء''، ودوره في المجتمع، بوصفه ''قطاعاً عاماً''، قال تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)، أي، توزيع المال بين أفراد المجتمع، فلا يُحتكر بيد طبقة الأغنياء.
أما الطريقة التي اتخذها المذهب الاقتصادي في الإسلام، لتمكين الدولة من القيام بتحقيق الضمان الاجتماعي، تكمن، في ضرورة إيجاد القطاعات العامة، التي تتكون من ''موارد الملكية العامة''، لكي تكون، إلى جانب الزكاة، ضماناً لحق المحتاجين من أفراد المجتمع، ورصيداً للدولة، بوصفها راعية اجتماعية، يمدها بالنفقات اللازمة لتحقيق الضمان الاجتماعي، ومنح كل فرد حقه في الحياة الكريمة، أو ما يعبر عنه الغرب بالمعيشة اللائقة.
وفي حال ضاقت الموارد عن تحقيق الضمان الاجتماعي، فإن المجتمع يتوجه إلى التكافل الاجتماعي، قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)، أي ما فضل عن الحاجة (القرطبي)، وهذا ما عبر عنه الرسول – صلى الله عليه وسلم – بقوله: ''إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ'' (البخاري)، ويعقّب القرضاوي، هنا، بالقول: على أولي الأمر أن يفرضوا في أموال الأغنياء من التكاليف المالية ما يكفي لمعونة الفقراء، ويفي بحاجتهم الأصلية، لا أن تكون وظيفة الدولة، كما في الاقتصاد الغربي الحر، حماية الأغنياء من الفقراء!
والتكافل الاجتماعي، يتم، في إطار المجتمع الإسلامي، على ثلاثة مستويات: المستوى الأول: التعاون الفردي: ويضم عموم الناس، كواجب على ذي الميسرة، قال تعالى: (وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ). والمستوى الثاني: التعاون الأُسري: فالإسلام يعتبر أن سلامة الكل تبدأ من سلامة الجزء، وإصلاح المجتمع الكبير يبدأ من إصلاح الأسرة، باعتبارها النواة الصغرى للمجتمع، قال تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ). والمستوى الثالث: التعاون الجماعي: قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
صحيح أن ''حد الكفاية''، أو ''تمام الكفاية''، للمعيشة اللائقة، يختلف باختلاف البلدان، ويختلف بحسب ظروف كل مجتمع وتطوره، وكذلك، في تحول الكثير من الكماليات إلى ضروريات.. إلاَّ أنَّ، الضمان الاجتماعي، يبقى، مسؤولية شرعية ثابتة على الدولة، وأولوية في المذهب الاقتصادي في الإسلام، ويبقى، الركيزة الأولى لصون المجتمعات من الهزات والانحرافات والفتن.. وعاملا أساسيا في الاستقرار والتطور والتنمية.. أما التكافل الاجتماعي فهو مشاركة المجتمع ككل في تأمين كفاف أفراده، كمشاركة دينية وجدانية وإنسانية.