الحرب على ليبيا .. موسم عقد الصفقات يضاعف حجم الارتباك الأمريكي
ثمة خلافات داخل مؤسسة القرار الأمريكية وداخل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو حول ليبيا, ويظهر أن الرئيس الأمريكي أوباما لم يتوقع شخصيا أن تصبح المنطقة على فوهة بركان وهو يشير لمساعديه برفع الغطاء عن دول يرى أنها سبب للقلاقل والمشكلات والأزمات الداخلية, ولم يعلم أوباما أن إشارته تلك كانت نتائجها كارثية وخلاف المتوقع, ولربما تشعل فتيل التطرف الديني في المنطقة, وتؤدي إلى زواج المصالح المشتركة بين الإسلام السياسي والجهادي, هذا الأمر استدعى من الرئيس الأمريكي تشكيل طاقم خاص أمني وعسكري لملاحقة التداعيات والعمل على ضبطها وتوجيهها ما أمكن! فقد أمر أوباما بتشكيل لجنة استخباراتية مكونة من ممثلين عن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) ومجلس الأمن القومي NSC ووكالة الاستخبارات المركزية CIA, ومهمة هذه اللجنة جمع المعلومات الاستخباراتية اللازمة لاتخاذ القرار المناسب، ولتجاوز الخلافات العميقة السائدة بين الرئيس ووزيري الدفاع والخارجية بالنسبة للسياسة التي ينبغي اتخاذها حيال ليبيا.
الارتباك الأمريكي واضح في الموقف من ليبيا، وتردده أيضا كان واضحا في الموقف من مصر لدرجة أن الدبلوماسية الأمريكية بدأت تتفرج وتنتظر النتائج وتعمل على ملاحقتها ومتابعتها, ولولا صمود الجيش المصري, لغرقت مصر في الجحيم, وزاد الطين بلة تلك التصريحات المقلوبة لوزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس في المنامة أخيرا, التي فهمت منها إيران أن أمريكا ترفع الغطاء عن المنامة وتدعوها للتدخل, الأمر الذي أدهش دول مجلس التعاون الخليجي من حالة القلق والتناقض في السياسة الأمريكية؛ ما دفع هذه الدول إلى اللجوء إلى قوات درع الجزيرة لضبط الأمن في ظل حالة إعلان للطوارئ, وهذا الارتباك يعكس وجود تناقضات في الإدارة الأمريكية وتعرضها للشد والجذب من أكثر من طرف!! وهنا نجد الرئيس الأمريكي أوباما بات أسيرا لقوى محافظة تؤمن بالغزو والاحتلال والتدخل العسكري.
أسرار الهدوء الأمريكي
التلكؤ الأمريكي لا يعكس شيئا من الرزانة الأمريكية غير المعهودة أيضا، لكنه يشي بوجود خلافات داخلية بين إدارة تحتاج إلى إطار دولي وعربي وإسلامي وإفريقي ومن الثوار والمعارضة الليبية, وتحتاج إلى أن تصل الأوضاع في ليبيا إلى درجة مأساوية يكون فيها التدخل العسكري عملا أخلاقيا, ولهذا فإن الإعلام الأمريكي على الرغم من حرصه على عدم الإشارة إلى استعدادات التدخل العسكري, إلا أنه بدأ نغمة الحديث عن حالة من التوازن في القوة بين القذافي والثوار, غير أن مصادر فرنسية تشير إلى أن هناك اتصالات سرية تجري بين دول أوروبية والرئيس الليبي وأيضا مع المجلس الوطني, وهنا لا نستغرب أن يدعم الغرب الطرفين لفترة من الوقت وصولا إلى المرحلة التي تسعى إليها الإدارة الأمريكية, وهي أخلاقية التدخل, وأمريكا تجري كامل استعداداتها للقيام بذرائع وحجج واهية تزعم فيها منع القذافي من استخدام العائدات النفطية كيلا يطيل أمد وجوده في السلطة, وتؤكد أحيانا أن الرئيس الليبي سيلجأ إلى قصف مصافي النفط الليبي, ويؤكد هذا الأمر التصريحات التي أدلت بها هيلاري كلينتون من أن منطقة حظر الطيران لا يمكن تنفيذها بدقة دون القيام بعملية عسكرية جوية وبحرية وبرية.
هذا الكلام قد يحتاج إلى مزيد من المعلومات, لكن المؤشرات تمضي قدما في هذا الاتجاه, وبحسب الصحافة الإيطالية فإن القذافي لمس أخيرا عدم رضا أمريكي عندما طالبت واشنطن سرا مساهمة ليبية في دعم الاقتصاد الأمريكي عقب الأزمة المالية العالمية, لكن القذافي لم يرفض, إنما وافق بشروط اعتبرتها واشنطن صعبة، كان من أهمها موافقة أمريكية على توريث الحكم في ليبيا، وتوقيع معاهدة أمنية مصحوبة بالحفاظ على أمن واستقرار ليبيا, وتسليم المعارضين الليبيين في الخارج, غير أن واشنطن عملت خلال السنوات الأخيرة على نسج علاقات أمنية وقيادات عسكرية ومدنية قد يكون أبرزها وزير الداخلية الليبي, الذي التحق بالثوار.
وتكشف التسريبات والمعلومات أن صراعا كبيرا بدأ أخيرا بين واشنطن وبكين هددت فيه بكين واشنطن بعدم المس بالمصالح الاستراتيجية الصينية في ليبيا وفي إفريقيا, حيث تشهد القارة الإفريقية صراعا وتنافسا شديدين بين الطرفين, وأن نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن طار إلى موسكو, وكانت جولته تستهدف ضمان موافقة روسيا على احتلال ليبيا, وكذلك الحصول على دعم روسي لمواجهة الموقف الصيني المتصلب, وصدرت مؤشرات عديدة تؤكد استعدادات واشنطن للقيام بعملية عسكرية, حيث كشف النقاب عن دعم لا محدود من قبل الكونجرس الأمريكي, الذي يسيطر عليه الجمهوريون للقيام بعملية عسكرية تخضع فيها ليبيا لسيطرة أمريكية ومن ثم تخضع إمكانات ليبيا النفطية وموجوداتها الخارجية ضمن صندوق أممي تشرف عليه الولايات المتحدة كما هو معمول به اليوم في العراق, وحصلت واشنطن على موافقة أولية من أعضاء في المجلس الوطني والمجلس العسكري.
وتؤكد عديد من المعلومات أن كلا من السيناتور جو ليبرمان والمرشح الرئاسي السابق جو ماكين يقودان حملة داخل الكونجرس والاستخبارات الأمريكية للتعامل مع الوضع الليبي باعتباره فرصة تاريخية, وفي هذا الصدد يؤكد جيمس ماتيس قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى أن خطة تنفيذ منطقة الحظر الجوي تحتاج إلى تنفيذ عمليات عسكرية تستهدف تدمير وسائط الدفاع الجوي الليبية, وقصف المطارات العسكرية الليبية, وتدمير كل قدرات سلاح الجو الليبي, وأشارت المعلومات إلى أن قوات أفريكوم جاهزة للانطلاق واتخاذ قاعدة جوية أمريكية سابقة مقرا للقيادة وللقوات الأمريكية، على أن يكون هذا بعد تدمير سلاح الجو الليبي كاملا وإخراجه من الخدمة، وكذلك الدفاع الجوي الليبي، ودعوة وتسليح وحدات الجيش الليبي (القيادة العسكرية المنشقة) لفرض سيطرتها على المدن الشرقية وإعلان تشكيل حكومة مؤقتة لحين ضمان الأمن والاستقرار في ليبيا, وتوضح المعلومات الأولية أن الخطة تحتاج إلى مدة ثلاث سنوات تقريبا, خاصة أن الرئيس الليبي قام بتجميع عديد من الأفارقة وعمد إلى تسليح القبائل الليبية، ناهيك عن وجود عشرات الآلاف من قطع السلاح ـــ حسب التقارير الأمريكية ـــ خاصة ما جاء عليه تقرير لموقع ستراتفورد الأمريكي المقرب من الاستخبارات الأمريكية.
ويبدو أن واشنطن ما زالت تعمد إلى عدم الاعتراف رسميا بالتحالف الوطني الليبي، وما زالت تبقي على بعض الاتصالات بنظام القذافي, ليس خشية من تمكن القذافي من استعادة سيطرته على الشرق الليبي, إنما خشيتها حال اعترافها وتنفيذ منطقة الحظر والتدخل العسكري, أن يؤدي هذا الاستعجال إلى قلب المعادلات الداخلية لمصلحة القذافي، وبما يقوي شوكة القبائل الليبية الرافضة للتدخل العسكري مهما كانت طبيعته وأهدافه.
وتخشى واشنطن انفراط المجلس الوطني حال التدخل العسكري, وتصبح في ورطة كبيرة رغم توافر المظلة الأممية للتدخل, وهذا ما دعا سوزان رايس المندوبة الأمريكية للقول إن واشنطن لن تعترف بالمجلس، لكنها ستواصل الضغط على القذافي حتى يتنحى, ويبدو من كلام رايس أن الإدارة الأمريكية تنتظر أن تتعمق الفجوة بين القذافي والليبيين, وهي ترجح أن الدمار الكبير والقصف الجوي سيجعل المهمة الأمريكية مشروعة, ولهذا فهي تنتظر الوقت الذي سيحدث فيه اختلاف كبير بين القذافي والقبائل الليبية, حيث أكدت رايس أن المعارضة الليبية في شكلها الراهن غير متماسكة وغير متحدة وغير متكاتفة, ولذلك من السابق لأوانه الاعتراف دون تقدم مادي وحقيقي على الخريطة الداخلية.
وتؤكد التقارير أن جو بايدن سعى لدى موسكو لتزويد الإدارة الأمريكية بكشوف ووثائق وخرائط حول الإمكانات العسكرية الليبية, خاصة أن ليبيا تعد ترسانة من الصواريخ المضادة للطائرات, وهي قادرة على إصابة أهدافها بدقة، وأن العاملين عليها ليبيون وأفارقة وعرب, وأرسلت واشنطن حاملة الطائرات إنتربرايس والمجموعة الضاربة المرافقة لها, وحاملة الطائرات كيار سارج ومرافقاتها, وحاملة الطائرات ماونت ويتني ومرافقاتها قريبا من الموانئ الليبية, ويبدو أن هناك حماسة أوروبية منقطعة النظير للتدخل العسكري في ليبيا, وهي ما ستكشفها الأيام القليلة القادمة.
لقد صدرت تحذيرات فرنسية من احتمالية امتلاك ليبيا قذائف كيماوية, وأن الرئيس القذافي يعمل على استدراج قوات التحالف الدولي ليكون لديه مبررات للدفاع عن ليبيا, فيما تؤشر بعض المصادر العسكرية إلى احتمالية استخدام القذافي قنابل جرثومية أيضا, غير أن القذافي يدرك أن التدخل العسكري سيخلق مزيدا من التحولات داخل المجتمع القبلي الليبي وسيتأكد الليبيون من أن تحذيرات سيف الإسلام القذافي وتحذيرات والده بخصوص الأطماع الغربية في النفط والثروات الليبية، وأنها السبب الرئيس وراء التدخل الغربي, وهنا سينكشف المجلس الوطني ولن يكون بمقدوره الدفاع عن التدخل العسكري الأمريكي لبلاده, ما يزيد من تعقيد وضعه الداخلي ويسهم في تراجعه واحتمال انفراطه أيضا, خاصة أن الأخبار الواردة من ليبيا تفيد بتقدم وحدات القذافي تجاه بنغازي, وأن بعضا من القيادات العسكرية التي خرجت على القذافي عادت وأعلنت أنها أخرجت بالقوة, فيما تشير المعلومات إلى أن جهات معينة دعت القذافي إلى ضرورة التحول للحرب الشعبية وانتظار التدخل العسكري, وأن هذه الجهات هي التي أشارت على بعض القيادات العسكرية بالانضمام إلى الثوار ومن ثم التراجع حال التدخل العسكري.
ونظرا لمعرفة الغرب بحدية وشراسة المجتمع الليبي وتعقيداته الداخلية واحتمال أن تشهد ليبيا وضعا مماثلا لأفغانستان فقد أرجأت الدول الغربية موافقتها على التدخل العسكري, وربطت التدخل فقط بهدف تطبيق الحظر الجوي حال اتخذ قرار دولي بهذا الخصوص خلال الأيام القادمة, ما دعا دول الثماني إلى الإعلان عن وجود خلافات حول آلية تطبيق هذا الحظر.
تحذيرات استخباراتية مبكرة
وتشير المعلومات الليبية إلى أن الاستخبارات الإيطالية حذرت القذافي مبكرا من احتمالية الفوضى واحتمالية التدخل الدولي, وكانت توقعاتها تشير إلى أن ليبيا ستكون بعد تونس مباشرة, وأن جهات ليبية رصدت حراكا غير طبيعي في تونس قبل الثورة التونسية بشهرين, ما دفع القذافي للاستعجال في الحصول على معدات عسكرية خلال فترة قصيرة, وقيام القذافي باتخاذ قرار بإنشاء صندوق تنموي اجتماعي, وقيامه بعمليات تحويل مالية كبيرة تهدف إلى معالجة الوضع الداخلي, حيث سبحت ليبيا ما لا يقل عن 100 مليار دولار من أرصدتها الخارجية, وفي الوقت ذاته بدأت الاستخبارات الليبية بدعوة بعض الميليشيات الإفريقية وفصائل من المقاومة في الصومال وأطلقت عديدا من أعضاء تنظيم القاعدة وسمحت لبعضهم بدخول ليبيا, فيما أشرف القذافي على عقد تحالفات قبلية مع قبائل إفريقية ومع الطوارق وبعض الجماعات السلفية المقاتلة في الجزائر, وجرى التفاهم معها على تسلم السلطة في المناطق التي تحدث فيها أعمال شغب، وطلب من وحدات الجيش الليبي في المنطقة الشرقية ترك مواقعها والاستعداد للمعركة الأكبر.
وحاول القذافي التواصل مع مالطا وتهديدها حال استخدمت بريطانيا قاعدتها الجوية المتمركزة في قاعدة أكروتيري العسكرية البريطانية الموجودة في جزيرة قبرص, من أجل إنفاذ مخطط إقامة منطقة حظر الطيران على ليبيا، واقترح تقديم دعم لها بمليارات الدولارات للحيلولة دون استخدام القواعد الجوية ضد ليبيا, وتشير المعلومات إلى تأكيد ليبيا إمكانية منح مصر منحة سنوية تتجاوز ثلاثة مليارات دولار وتشغيل ما لا يقل عن مليون مصري في ليبيا حال دعمت مصر استعادة القذافي السلطة في المنطقة الشرقية.
يشار إلى أن بريطانيا الدولة الأوروبية الوحيدة التي لم تسع إلى الحصول على موافقة الثوار ولا جامعة الدول العربية ولا الاتحاد الإفريقي, بل فقط الحصول على موافقة الأمم المتحدة, بينما ظلت إيطاليا تمارس موقفا سياسيا مهادنا بين المواقف الغربية في الوقت نفسه أبقت على اتصالات مع الرئيس الليبي معمر القذافي, ودعت إيطاليا القذافي إلى عدم استخدام القوة المفرطة ضد الليبيين, وهو يقترب من الموقف الألماني, ليتضح لنا أن واشنطن وبريطانيا وفرنسا من الداعمين لعملية تدخل عسكري كبيرة في ليبيا, لكن هناك اختلافات حول الحصول على موافقة عربية وإفريقية وموافقة الثوار الليبيين.
ويبدو أن باريس ولندن بموقفهما المتقدم من جهة التدخل العسكري تتجاوزان الموقف الألماني في خطوة استباقية تهدف إلى السيطرة العملية على النفط الليبي وحرمان ألمانيا من ذلك, خاصة أن ألمانيا تعتمد بشكل رئيس على النفط الليبي, الذي يعد شريانها الحيوي, وهذا سيدفع برلين للرضوخ لسياسة الأمر الواقع البريطانية تحديدا، والفرنسية أيضا, التي تقدمت خطوات باتجاه الاعتراف بالمجلس الوطني الليبي.
وتشير المعلومات إلى أن واشنطن أخذت مجموعة من الإجراءات الاستخباراتية الاحتياطية عقب الإطاحة بنظامي الرئيسين التونسي والمصري لمواجهة المخاوف من سيطرة القوى الإسلامية, ولهذا استدعت واشنطن على عجل تدخل بعض القوى الإقليمية في المنطقة, خاصة تركيا وإيران, بهدف تهدئة الأوضاع في مصر وتونس ومحاولة التعاون معها باتجاه ضبط المتغيرات في الشارع اليمني, إذ يبدو ظاهرا أن حوارا يجري مع الحراك الجنوبي وحركة الحوثيين التي أعلنت إلقاء السلاح, إضافة إلى مجموعة من القبائل اليمنية أسهمت في مضاعفة كفة التنازلات اليمنية, بينما يؤكد جيمس ماتيس قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى أن نظام الرئيس صالح يكافح لاحتواء حركتي التمرد في الشمال والجنوب, وأن وزنهما قد يلحق بقوات الأمن والجيش اليمنيين الانهيار الكامل, إضافة إلى خطر تآكل الاقتصاد اليمني, وأبلغ الجنرال جيمس ماتيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي بوجود دلائل على تراجع قدرة الرئيس صالح على ضبط الوضع, بعدما كان قد أدار هذه التهديدات عن طريق المفاوضات وبتسلسل مع خصومه.
وتركيا تعمل على ترشيد عملية الاستعجال الغربية بالتدخل العسكري لأسباب تركية عديدة, فأنقرة تعمل وتتمنى أن تقبض أثمان رؤيتها السياسية, خاصة تبنيها وترويجها النموذج التركي الإسلامي في إطاره الواقعي والعلماني, وأن أنقرة تمكنت من إقناع الإدارة الأمريكية بأن لا مخاوف على المصالح الأمريكية من التيار الديني, وأن أنقرة أجرت حوارات مع إسلاميين في البلاد العربية بهذا الخصوص, ولهذا لا يمكن أن توافق تركيا على التدخل العسكري, لكنها حتما ستوافق على الحظر الجوي.
ويحاول أردوغان إثارة الغرب تجاه مزيد من الدعم للحركات الثورية العربية, وتصريحات أردوغان هذه على حساسيتها, إلا أنها تعكس الموقف التركي من بعض العلاقات العربية الرافضة العمل تحت اللواء التركي وتحت مظلة العثمانية الجديدة, ويبدو أن أردوغان تراجع عن بعض تصريحاته هذه عندما شعرت السياسة التركية برفض شعبي عربي لدور تركي ملتبس حيال ما يجري, فقد رفضت مبادرته تجاه القذافي واستهجن العرب تصريحات أردوغان وتدخله في الشؤون العربية عندما أكد أن أنقرة على اتصال بقيادات الثورات العربية, ودعوته أمريكا إلى دعم الديمقراطية دون الاعتبارات النفطية, لكن ـــ على ما يبدو ـــ فإن أنقرة ترفع من سقف معارضتها للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي, وحل الأزمة القبرصية بما يرضي تركيا.
بايدن الذي زار موسكو حمل معه صفقة متكاملة مقابل تأييد عمليات التدخل في ليبيا، من ضمانات للشركات الروسية، ودعم روسيا في منظمة التجارة العالمية، وتقديم منح كبيرة وميسرة لموسكو، وتحقيق انفتاح اقتصادي، وتقديم التزام أمريكي بتطبيق شامل لبنود اتفاقية ستارت المتعلقة بخفض معدلات التسلح, ومع ذلك حرصت واشنطن على أن تبدي الوجه الآخر لموسكو حال عدم موافقتها, فإن واشنطن سترفع من درجة علاقاتها مع هذه الدول وتعطيل العلاقات الروسية ـــ الأوروبية.
حاولت واشنطن التلويح لموسكو بأنه في حال لم تحصل على موافقة روسية، فإن بايدن سيؤكد توسعة علاقات واشنطن وفنلندا ومولدافيا، والتلويح لموسكو بأن علاقات روسيا مع أصدقائها الأوروبيين سوف لن تمضي قدماً وحسب, إنما ستتدهور إذا سعت واشنطن لجهة الضغط على ألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي عبر نافذة علاقات عبر الأطلنطي من أجل الإضرار بالمصالح الحيوية الروسية في أوروبا, التي من أبرز مشروعاتها: تمديد خطوط أنابيب نقل النفط والغاز الروسي إلى بلدان الاتحاد الأوروبي وتوسعة نطاق حلف الناتو وصولا إلى حدود روسيا.
وسبقت زياة بايدن هذه زيارة أخرى قام بها الدبلوماسي الأمريكي ويليام بيرنس الذي يتولى منصب مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون, الذي حمل رسالة سرية من الرئيس الأمريكي أوباما للرئيس الروسي ميدفيديف. وبحسب التقارير فإن التسريبات تؤكد أن زيارة الرئيس أوباما لموسكو برفقة وفد أمريكي رفيع المستوى ستتوقف حصراً على مدى تعاون الكرملين مع أجندة السيناتور بايدن التي سيطرحها خلال زيارته لموسكو, فهل يا ترى ستوافق موسكو وتبلع ''الطعم'' الأمريكي، أم أنها ستفلت هذه المرة من شراك السيناتور بايدن؟
متغيرات ليبية في الطريق
المتغيرات الليبية تبدو أنها كفيلة بإحداث نوع من الاختلاف في الموقف الأوروبي تحديدا ألمانيا وإيطاليا, إضافة إلى المواقف: الروسي والتركي والصيني أيضا, وهذا المتغير النوعي كان بإحراز قوات القذافي تقدما عسكريا ميدانيا شرقا وغربا, وأن الأيام الثلاثة المقبلة ستكون كفيلة باستعادة أو محاصرة بنغازي, وبحسب معهد ملام لشؤون الاستخبارات والإرهاب، أن القذافي أرسل رسائل تحذير شديدة اللهجة لأوروبا، تأكدت إثرها خشية الدول الأوروبية الفعلية من حدوث انقلاب في الوضع الليبي لمصلحة القذافي، وقيام تنظيم القاعدة بإعلان قيام إمارة إسلامية في الشرق الليبي, وغزو أوروبا وإغراقها بالمهاجرين غير الشرعيين, وتهديد القذافي بسحب أرصدة ليبيا واستثماراتها من الدول التي توافق على التدخل في ليبيا.
هذه المتغيرات دفعت إلى تجديد الاتصالات السرية بالعقيد القذافي، كان من ضمنها موافقة أوروبية على رفع جزئي لتجميد الأموال الليبية وإرجاء إمكانية تطبيق الحظر الجوي على ليبيا, وبحسب المعهد فإن هذه الاتصالات تدار عن طريق المجلس العسكري الأعلى في مصر ورئيس الحكومة اليونانية جورج بباندريو وأوساط سياسية وأمنية في فيينا.
وأوضح التقرير أن شرط القذافي بوقف التقدم العسكري ناحية بنغازي حصوله على موافقة بعدم التدخل العسكري وعدم فرض الحظر الجوي, وهو ما دعا السكرتير العام لحلف الناتو أندرس راسموسن للظهور والإعلان أن حلف الناتو لن يتدخل في الحرب لعدم وجود قرار من الأمم المتحدة يسمح بذلك, وسمح الغرب للطائرات المدنية الليبية بإرسال مبعوثين إلى مصر وأثينا وفينا, وما جرى تداوله في العواصم الثلاث تضمن موافقة القذافي على شبه وقف لإطلاق النار بشكل غير رسمي مع الثوار وعدم مهاجمتهم أو تحريك قواته الموجودة في شرق ليبيا للقيام بعمليات عسكرية ضدهم, مقابل حصوله على ضمانات دولية يوقف بموجبها الثوار الهجمات والتظاهرات المناوئة للقذافي والقيام برفع جزئي للعقوبات وإلغاء تجميد الأموال الليبية, واحتمالية إرسال وحدة مصرية من قوات الفصل والمراقبين والإشراف على تنفيذ الهدنة غير الرسمية, وهذه المقترحات جاءت بعد معلومات استخبارية تفيد بإمكانية حسم القذافي معركته في الشرق الليبي خلال أيام, وأن القذافي سيسعى أيضا إلى المطالبة بسحب الدول عدم اعترافها بالنظام الليبي وإلغاء قرار العقوبات الدولية.
هنا يتراءى للمحللين أن واشنطن تعيش حالة ارتباك غير مسبوقة, فهي تتمنى التغيير, لكنها حتما لا تعرف إلى أين يؤول مصير هذه الثورات, فعلى الرغم من تجاربها الدامية في أفغانستان والعراق, هناك من يعمل على دفع الإدارة الأمريكية لتبني خيارات مجنونة أيضا!