على الرغم من أهميته.. إلا أن للمجتمع تناقضاته ومفارقاته

شهد العقدان ونيّف الماضيان طائفة من التحوّلات والتغييرات على نطاق المجتمع المدني، الذي أخذ دوره يتعاظم بعد الحرب العالمية الثانية، ولا سيما بعد إقرار ميثاق الأمم المتحدة في سان فرنسيسكو عام 1945، وفيما بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948، الذي أعقبه إبرام الجمعية العامة للأمم المتحدة للعهدين الدوليين في عام 1966، الأول: العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والثاني: العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وهما اتفاقيتان شارعتان، أي منشئتان لقواعد قانونية جديدة أو مثبتتان لها، وقد دخل العهدان الدوليان حيّز التنّفيذ في عام 1976. وقد تعاظم هذا الدور بانتهاء عهد الحرب الباردة وتفكك الكتلة الاشتراكية في أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات.
لكن هذه التطورات الإيجابية، رافقتها بعض المفارقات الخطيرة، التي صاحبت ظاهرة العولمة التي فرضت نفسها على التطور الدولي، خصوصاً بوجهها السلبي واللاإنساني، الذي يكاد يلغي بعض جوانبها الإيجابية. صحيح أن ثمة سلبيات ومساوئ كثيرة اتسمت بها العولمة، لكن تطوراً إيجابياً حصل في إطار المجتمع المدني لا بدّ من إقراره، ولا سيما بتعزيز الحقوق والحريات وإنشاء منظمات حقوقية ودفاعية، فضلاً عن منظمات للدفاع عن المرأة وحقوق الفئات المهمشة، وقضايا الفقر والبيئة والصحة وغيرها، ناهيكم عن تأكيد الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبلورة بعض الحقوق في الثمانينيات، التي شملت الحق في التنمية، والحق في السلام، والحق في بيئة نظيفة، والحق في الاستفادة من منجزات الثورة العلمية- التقنية، وهي حقوق جماعية وفردية. مثل الحق في التعددية، والحق في هوية خاصة، والحق في التنوّع، والحق في الديمقراطية.
وكان من نتائج هذه التطورات ظهور قوى عالمية، وتحالفات دولية لمكافحة الفساد، ووضع مبادئ الشفافية والمساءلة موضع التطبيق، تلك التي لم تكن بمعزل عن مساهمة فاعلة للمجتمع المدني ودوره المتميّز على هذا الصعيد. كما أظهرت هذه التطورات تزايد الشعور بالانتماء إلى قيم إنسانية مشتركة بغض النظر عن الجنسية، والدين، والقومية، والجنس، واللغة، والمنشأ الاجتماعي، هذه القيم التي تقوم على السلام والتضامن والحوار بين أمم وشعوب وحضارات.
من جهة أخرى، ترافق التطور الإيجابي مع الطفرة المعلوماتية والإعلامية، وثورة الاتصالات التي بفعل الإنترنت والهاتف الجوال والفيسبوك، جعلت العالم كلّه متصلاً مع بعضه في لحظة واحدة، ولعل حدثاً مثل إحراق محمد البوعزيزي نفسه في تونس احتجاجاً على سياسات الإقصاء والتهميش لفئات واسعة من السكان، أشعل البلد كلّه بثورة عظيمة لم تكن وسائل الاتصال بعيدة عنها.
لعل تنامي قوة مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات والمنظمات غير الحكومية على المستوى العالمي، وتزايد دورها المؤثر في السياسة الدولية والتوجهات الاقتصادية العالمية، هو أحد الأوجه الإيجابية للتطورات الدولية ناهيكم عن تزايد اهتمام الإعلام العالمي بالمجتمع المدني ودعم دوره ونشاطه في مواجهة قضايا الحريات وحقوق الإنسان وحماية الشعوب والبلدان المستضعفة، ولا سيما من خلال الفضائيات التي أصبح دورها كبيراً جداً. وارتفع رصيد الحركة النسائية والشبابية المستقلة في العالم، وجعلها أكثر قدرة من ذي قبل على الدفاع عن قضايا الحريات والديمقراطية وشفافية ونزاهة الانتخابات وغيرها.
وإذا كانت تلك الإيجابيات العالمية قد واجهت المجتمع الدولي، فقد واجهته سلبيات كثيرة أيضاً منها: انتشار الحروب الأهلية والطائفية والعرقية، وتأثيراتها في السلم والأمن الإقليميين والدوليين، يضاف إليهما الحروب والنزاعات الدولية التي شهدتها المنطقة، خصوصاً بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) بدءًا من حملة مكافحة الإرهاب الدولي إلى احتلال أفغانستان واحتلال العراق، مروراً بالعدوان الإسرائيلي على لبنان في عام 2006، وحرب إسرائيل المفتوحة ضد غزة في أواخر عام 2008 وأوائل عام 2009 واستمرار الحصار ضدها منذ نحو أربع سنوات.
وشملت التطورات العالمية قرارات العولمة المتجهة نحو الخصخصة واكتساح السوق وإزالة الحواجز، الأمر الذي زاد الفقراء فقراً والأغنياء غنى، حتى إنّ نسبة الفقراء على المستوى العالمي ازدادت على نحو مروّع، وأصبح ما يزيد على مليار و200 مليون يعيشون دون خط الفقر، وأن دخولهم لا تتجاوز دولاراً واحداً في اليوم وضعفهم هم من يعانون الفقر والعوز والحاجة ولا تسدّ دخولهم الاحتياجات الأساسية، أي أن أكثر من ثلثي البشرية من المحرومين، وجزء قليل مما تبقى هم متخمون.
إلاّ أن هذه المنظمات ظلّت تواجه تحديات كبرى من جانب الدولة بشكل خاص منها هيمنة الأخيرة على الاقتصاد واحتكار السياسة، والتحكّم في الثقافة والإعلام، والرياضة، والسياحة، والمجتمع، والقانون. وقد لعبت أسعار النفط في بعض البلدان التي ارتفعت دوراً سلبياً في ترسيخ القيم الاتكالية والتبعية والفساد والسرّية في بعض المجتمعات.
وقد لعب فشل الأحزاب السياسية في تحقيق التغيير المنشود ومعالجة الأزمات القائمة ببرامج عمل بديلة دوراً سلبياً خطيراً على الحراك الاجتماعي وأضعف المجتمع المدني ثقته بنفسه مثلما أضعف ثقة الرأي العام بالمجتمع المدني وقياداته، خصوصاً بفشل خطط التنمية وغياب بديل تنموي حضاري، الأمر الذي دفع الكثير من المثقفين إلى الإحباط والقنوط.
وكانت سياسات التمييز والإقصاء والتهميش قد أدت إلى زيادة الشعور بالاغتراب، خصوصاً في ظل مواطنة هشّة أو ناقصة أو مبتورة أو غير متساوية، الأمر الذي أضعف الهوية الموحدة، خصوصاً لدى الشباب، مع استمرار التمييز ضد المرأة وانتشار التعصب والعنف بدلاً من السلم والتسامح وروح الحوار وقبول الرأي الآخر.
وكان الإنفاق على التسلح بدلاً من الاعتماد على التنمية وتوفير الخدمات إحدى سلبيات العولمة الخطيرة، ولا سيما على البلدان النامية، حيث تغلغلت الثقافة السلطوية، وانعدمت الشفافية والمحاسبة والنقد الذاتي، في إطار هرمية مركزية صارمة.
لقد انتشر الفقر والبطالة على نحو لم يسبق له مثيل، ولا سيما في أوساط النساء والشباب، واتّسعت دائرة الأمية، وخصوصاً في بلدان كثيرة، بسبب الحاجة إلى العمل، حتى دون الشروط القانونية، أو التسرّب من الدراسة بسبب الحاجة، وعدم إمكانية مواصلة توفير تكاليف الدراسة، وتأثرت البيئة التي عانت من التصحّر، ولا سيما موضوع شحّ المياه، كما انتشرت المخدّرات، وارتفعت معدّلات الجريمة، وتعاظم العنف والإرهاب على نحو لم يسبق له مثيل، ولم تجد تلك الحقول استثمارات كافية لمعالجتها، وهو ما شخصته الأمم المتحدة في مؤتمراتها الدولية، خصوصاً لمشكلات الفقر .
وكان المشهد قد تأثّر أيضاً من خلال سيادة القيم المادية والاستهلاكية التي فرضتها العولمة، ولم تتوقف عند شريحة أو فئة، بل شملت جميع المواطنين، على نحو عاظم الأنانية الفردية وعدم الشعور بالمسؤولية والعزوف عن العمل العام والتطوعي بشكل خاص. وقد ازدادت الهجرة من الريف إلى المدينة ومن المنطقة إلى المنافي، طلباً للعمل والحرية، وارتفعت موجة التطييف (من الطائفية) والتديين (من الدين)، والتعشير (من العشيرة)، والأثننة (من الاثنية) على حساب المشترك الإنساني والهوية الجامعة، التي تفترض احترام الهويات الفرعية. لعل في ذلك جوانب تناقض عميقة في التطورات الدولية، ولا سيما على المجتمع المدني، ناهيكم عن المفارقات التي صاحبته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي