الشريعة الإسلامية تنفر من الاستدانة ابتداءً وتحث على الوفاء بها متى وجدت أسبابها ودواعيها

الشريعة الإسلامية تنفر من الاستدانة ابتداءً وتحث على الوفاء بها متى وجدت أسبابها ودواعيها
الشريعة الإسلامية تنفر من الاستدانة ابتداءً وتحث على الوفاء بها متى وجدت أسبابها ودواعيها

أوضح الدكتور سامي إبراهيم السويلم أن الشريعة الإسلامية إجمالاً لا تشجع على الدَين ولا ترغب فيه، وأن أحد مقاصد التشريع في باب المعاملات هو الحد من التوسع في المديونية. جاء ذلك في حوار أجرته ''الاقتصادية'' معه حول ما يعانيه كثير من المجتمعات اليوم من استفحال المديونية العامة والخاصة, الاستهلاكية والاستثمارية, وما يترتب على ذلك من اضطراب أدائها الاقتصادي واستقرارها الاجتماعي، وانتشار الديون في المجتمع، وكيفية معالجة الإسلام هذه المشكلة.

في نظركم.. ما أهم المصالح والمفاسد المتعلقة بالدَين؟
للدَين ـــ كما هو معلوم ـــ مصالح تبعث الناس على التعامل به، لكن لـه أيضاً مفاسد يدركها كل من تأمل في أحوال المدينين، وإذا أردنا ذكرها باختصار شديد يمكن أن نقول: إن أهم مصالح الدَين أنه في الغالب نوع من المبادلة عبر الزمن, فالمدين يحصل على منفعة عاجلة، لكنه يقدم العِوض آجلاً. والدائن يقدم الدَين عاجلاً أملاً في ربح آجل. وفي كثير من الحالات يوجد أفراد أو منشآت لها حاجات حاضرة تحتاج إلى إشباعها، لكنها لا تملك العِوض إلا في وقت لاحق. ويوجد كذلك من الناس من لديه مال حاضر، لكن حاجته إليه ليست ملحة، فيقبل أن يدّينه للأول، إما بمعاوضة ائتمانية أو قرض حسن، طمعاً في الربح الآجل أو الضمان.
وقد تبرز هذه المنفعة أكثر في هذا العصر، حيث أدى التطور في أدوات الاتصال إلى نشوء فرص التبادل بين أطراف متباعدة مكانياً، يصعب عليها الدفع نقداً في كل مبادلة، فتلجأ هذه الأطراف إلى المداينة لتسهيل التبادل وتدوير عجلة التجارة, إضافة إلى أن الدَين قد يساعد على تنظيم مدفوعات المدين. أما مفاسده فكثيرة, على رأسها نمو النزعة إلى تفضيل العاجل على الآجل, إضافة إلى ضعف المسؤولية الذاتية والتوسع غير المبرر في الإنفاق, ومن أبرز آثار هذا السلوك انخفاض مستوى الادخار، وهي نتيجة طبيعية للمديونية وظاهرة ملموسة لدى المجتمعات المفرطة فيها, كما أن انتشار الدَين يؤدي إلى عدم الاستقرار وتفاقم التقلبات الاقتصادية وسوء توزيع الثروة.

#2#

ما نظرة الإسلام تجاه الدين؟
الدَّين، كما يذكر الفقهاء, لـه طرفان: إيجاب واستيفاء, ومنهج التشريع الإسلامي في الدين هو التنفير من الاستدانة ابتداءً، ثم الحث على وفاء الدَين متى وجدت أسبابه ودواعيه, وبالنظر في الأحاديث الواردة في الدَين نرى أن قسما منها يدل على التنفير من الدَين في الجملة والآخر يدل على الحث على وفاء الدَّين إن وقع، فليس في الحقيقة بينهما تعارض. يبين ذلك: أن التنفير من الدَين جاء بالنظر إلى ما فيه من المفاسد التي أشرنا إليها في جواب السؤال الأول, والمسلم مأمور بالإنفاق على نفسه ومن يعول. فإذا احتاج حاجة ملحة، ولم يجد غير الدَين وسيلة، فهو مأمور حينئذ بالاستدانة للقيام بحق النفقة. لكن هذه الحاجة لا تغير من حقيقة الدَين وأضراره شيئاً. فوعد الله ــ تعالى ــ من كان حاله كذلك فاستدان بأن يكون معه، وأن يعينه على مفاسد الدَّين التي لأجلها شدد الشرع في حكمه, وليس هذا المنهج في التشريع غريباً على هذه الشريعة المطهرة, وبإيجاز فإنه بالاطلاع على النصوص الشرعية يمكن القول إن شروط جواز الاستدانة المتحصلة من النصوص ومن كلام أهل العلم المتقدم ثلاثة شروط: أن يكون المستدين عازماً على الوفاء، وأن يعلم أو يغلب على ظنه قدرته على الوفاء، وأن يكون الدَين في أمر مشروع.

ما رأيكم فيمن يقول: إن جواز صرف الزكاة للغارمين أحد عوامل توسيع نطاق المداينات؟
نقول إن هذا القول بجانب مخالفته لكل النصوص والأحكام الواردة في باب الدَين, فهو أيضاً لا يتفق مع نظرة الإسلام لسهم الغارمين وتنظيمه فيه. وللشيخ يوسف القرضاوي كلام جميل في الموضوع لعلنا نشير إليه باختصار, فنقول الغارم الذي عليه دَين والغارم لمصلحة نفسه يستحق الزكاة، بشروط أن يكون في حاجة إلى ما يَقضي به دَينَه، فلو كان غنياً قادراً على سداده لم يُعط من الزكاة وأن يكون قد استدان في طاعة أو أمر مباح. أما لو استدان في معصية فلا يُعطى. ''ومثل ذلك إذا أسرف في الإنفاق على نفسه وأهله، ولو في الملاذ المباحة، فإن الإسراف في المباحات إلى حد الاستدانة حرام على المسلم''، وأن يكون الدَين حالاً.
وموقف الإسلام من الغارمين، والمستدينين بصفة عامة أنه أولاً يعلم أبناءه الاعتدال والاقتصاد في حياتهم، حتى لا يلجأوا إلى الاستدانة فإذا اضطَرت المسلمَ ظروفُ الحياة إلى الاستدانة كان عليه أن يَعقِد العزم على التعجيل بالوفاء والأداء، فيكسب بذلك معونة الله وتأييده فيما نوى، ''من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى عنه الله، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله''، فإذا عَجِز عن أداء الدَين كلِّه أو بعضِه، مع دلائل تصميمه على الوفاء، فإن الدولة تتدخل لإنقاذه من الدَين، وكان من الوسائل التي اتخذها النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ في تنفير أصحابه من الدَين أنه لم يكن يصلي على من مات من أصحابه وعليه دَين ولم يترك له وفاءه. وفي هذا زجرٌ شديدٌ لأصحابه عن الاستدانة، فإن كل واحد منهم يحرص كل الحرص على صلاة النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ عليه ودعائه له، ويَعُدّ الحرمان من ذلك عقوبة كبيرة وخسارة عظيمة. ثم لما أفاء الله عليه، وفتح له، وكثُرت موارد بيت المال، صار يتولى بنفسه سداد ديون المسلمين, هذا هو موقف الإسلام من الغارمين، فأين تجد فيه توسيع نطاق المديونية والحث عليها!

إذا نظرنا إلى تطبيقات المصارف الإسلامية نجد أنها أغرقت الناس في الديون.
أقول إن مما سبق يتبين أن اعتماد المصارف الإسلامية في استثماراتها على البيوع الآجلة، وإن كان من حيث المبدأ جائزاً، لكنه ليس هو الوضع المنشود. فالوضع المثالي هو اعتماد المشاركة أساساً، ثم الاستفادة من العقود الأخرى بحسب ترتيبها بالنظر إلى مقاصد التشريع, وبطبيعة الحال فإن مشروع ''تصنيف عقود التمويل الإسلامية بالنظر إلى المقاصد الشرعية'' في حاجة إلى جهود متضافرة متواصلة, ولعل من الحسن هنا الإشارة إلى مقاصد التشريع في ميدان الاقتصاد, فقد قرر العلماء أن المال إحدى الضرورات الخمس التي قصد الإسلام الحفاظ عليها, لكن مقصد حفظ المال لا بد لـه من مقاصد مكملة وتابعة، تخدمه وتسهم في تحقيقه. وبالنظر إلى المصالح والمفاسد المترتبة على الدَين، يظهر جلياً أن قصد الحد من المديونية مقصد متمم لحفظ المال. ونستطيع أن نستشف من قصد الحد من المديونية النتيجة المباشرة له، ألا وهي المحافظة على استقرار أداء الاقتصاد.
إن الاستقرار يمثل بيئة ملائمة للتخطيط طويل المدى، وللتنمية المتوازنة، والاستثمار المجدي. ومن المعلوم بوضوح أن من أهداف الاقتصاد الإسلامي تحقيق الاستقرار والثبات للاقتصاد، وتجنيبه عوامل الاضطراب والتقلبات. وهذا من خلال ترشيد تفضيل العاجل والحد من التوسع في المديونية وكفاءة توزيع الثروة والاعتماد على التمويل بالمشاركة بصورة أساسية, وكل من هذه العوامل، على حدة، يسهم في ثبات الاقتصاد وتجنيبه مصادر التوتر والتقلب، كما أشرنا سابقاً. والذي يتأمل في الأوضاع الاقتصادية اليوم، يلاحظ اختلال كلٍ من هذه العوامل، ويلاحظ من ثم جنوح الاقتصاد المفرط نحو الاضطراب وعدم الاستقرار.
ولا ريب أن من تتبع مقاصد التشريع في باب المعاملات المالية والاقتصاد عموماً يجد أنها على درجة بالغة من الأهمية في بناء علم الاقتصاد الإسلامي على أسس راسخة ومتينة.

الأكثر قراءة