هويتنا في بيوت الله

يحق لنا أن نفتخر في المملكة العربية السعودية بعدد المساجد والجوامع ومصليات العيد الموجودة في كل شارع، وفي كل حي، وكل حارة، في تناغم رائع، يبعث على الاطمئنان في النفوس، بأن الإسلام في بلادنا بخير، وحب بناء بيوت الله في تنامٍ متواصل، ويذكرنا أيضاً بما كان عليه السلف الصالح في عهد الرسول الكريم، محمد بن عبد الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ ومن بعده الصحابة الكرام، عندما كانوا يحرصون على أن يكون أول عمل يقومون به، عندما يستوطنون مكاناً جديداً أن يبنوا مسجداً لهم يصلون فيه صلواتهم الخمس، ويتدارسون كتاب الله، وبعدها يبدأون في بناء منازلهم. كما يحق لنا أيضا أن نتباهى بما لدينا من أشكال وأنواع العمارة المستخدمة في مساجدنا، التي يشار إليها بالبنان، وفي مقدمتها بالطبع، الحرمان الشريفان، بكل العناية من ولاة الأمر، حتى باتا نموذجين فريدين، لا مثيل لهما في الكون، فيما يخص بناء الجوامع العملاقة والاهتمام بها.
ويحتفظ المسجد أو الجامع بمكانة سامية وهالة مقدسة في نفس كل إنسان مسلم، تحتم عليه احترامه وإعلاء شأنه، ولو لم يكتمل إيمان الشخص، فلم تكن النظرة للمسجد على أنه مجرد بناء متسع، تعلوه مئذنة، وبداخله سجاد مفروش، وترتكن على جدرانه أرفف خشبية أو معدنية لحمل المصاحف وبعض الكتب الدينية، بل هو منذ القدم، بيت المسلمين، يلتقون فيه خمس مرات يومياً، يتلون فيه كتاب الله ويتبادلون فيه الحديث، ويطمئنون فيه على أحوال بعضهم بعضا، ويتشاورون في أمرهم، ويعقدون فيه بعض مناسباتهم الاجتماعية، صحيح أن كثيرا من هذه العادات تغيرت وتبدلت بفعل الحداثة والتغيرات الاجتماعية التي فرضت نفسها علينا، لكن ظلت القيمة المعنوية للمسجد في النفوس كما هي، لم تتغير، ولن تتغير ـــ بإذن الله ـــ حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
إن امتداح مساجد وجوامع المملكة والإشادة بما وصلت إليه من فنون العمارة والتشييد، لا يمنعني من التحذير من سلبيات عدة علقت بأبنيتها في السنوات الأخيرة وشوهت منظرها ومنحت الإحساس بأن هذه المساجد أو الجوامع ليست قائمة على أرض المملكة العربية السعودية، وليست امتداداً لما ألفناه من عمارة ذات طابع إسلامي فريد، يميز دور العبادة في بلادنا، هذا الطابع تم استبداله بأنماط معمارية ''غريبة'' و''عجيبة''، لم نكن نشاهدها من قبل في مملكتنا، ولا نعرف من أين وصلتنا، وما أصولها، فقد عرفت أنواع المساجد بسبعة أشكال قديما وهي المساجد (المغربي ـــ الأندلسي ـــ المصري ـــ السلجوقي ـــ الهندي ـــ الصفوي ـــ والعثماني), وهذا حسب التسلسل التاريخي، أضف إلى ذلك اجتهاد البعض في بناء مساجدهم الجديدة بشكل مغاير عما نعرفه، معتقدين أنهم يؤسسون لفنون جديدة في العمارة، فكانت الحصيلة سيلا من المساجد والجوامع منتشرة هنا وهناك، غير محددة الهوية، قد يتخيلها الناظر إليها، أي شيء آخر، إلا أن تكون مساجد.
ولم يقتصر التغير في المساجد والجوامع، على زخرفاتها الخارجية، وتصاميمها الداخلية، وإنما صعد إلى أعلى، ولحق بالمآذن، فحولها إلى قبب صماء، لا توحي بشيء، ولا يستشعر تجاهها المسلم بالروحانيات والإيمانيات التي تفرض نفسها فرضاً عليه، عندما يدخل مسجداً، يراعي التقاليد السعودية في البناء، هذا الشعور لمسته في سلوك أناس كثيرين، أجدهم يفضلون قطع مسافات طويلة جداً، للصلاة في مسجد معين، متجاهلين الصلاة في مساجد أخرى قريبة منهم، وعندما تسأل أحدهم عن السبب، يقول إنه يشعر بالخشوع في هذا المسجد أكثر من سواه.
قد لا أبالغ إذا أكدت أنه يحق لنا في المملكة العربية السعودية أن تكون لنا هويتنا وشخصيتنا المستقلة في بناء المساجد والجوامع ومصليات العيد وعمارتها بالشكل المميز لبيئتنا وثقافتنا وعاداتنا، هذه الشخصية ليست نابعة من ''نرجسية'' زائدة على الحد، أو ''عنصرية'' طاغية، إنما من كون المملكة مهبط الوحي، وتحتضن الحرمين الشريفين، ويتوجه صوبها أكثر من مليار مسلم خمس مرات في اليوم، أثناء صلواتهم، وبالتالي علينا أن نكون مميزين في كل ما يخص الإسلام ودور العبادة، لذا قد يحتاج الأمر إلى فرض إجراءات وسن تشريعات من الجهات المختصة، وأعني بها تحديداً وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، والأمانات والبلديات.
ومن وجهة نظري يا حبذا لو كان لكل منطقة في المملكة نموذج مميز وموحد لها في بناء مساجدها وجوامعها ومآذنها، وقد يكون من المناسب كذلك استخدام إنارة موحدة كالخضراء مثلاً لجميع المآذن لسهولة التعرف عليها ولتكون هوية واضحة المعالم للمدينة ليلاً، وبذلك تكون للمساجد لدينا شخصيتها المستقلة وهويتها المميزة، وهنا يأتي دور جهة الاختصاص, وأعني وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف بأن تتبنى عمل مسابقة كبيرة لتصميم المساجد والجوامع وفقاً لأحجامها والأنواع المختلفة من التصاميم بما يتجانس مع التصاميم المعمارية لمدينتنا مثل النمط النجدي والحجازي ونمط جنوب المملكة وشرقيها وشماليها وغيرها، على أن تتم مراعاة الجانب العملي واحتياجات المصلين من أماكن مناسبة للاعتكاف ومكتبة ومناسبات اجتماعية وكذلك محال تجارية يستخدم ريعها لصيانة المسجد للخروج بتصاميم مختلفة وفقاً لأحجام متعددة، أو أن يتم تكليف إحدى شركات التصميم المرموقة بتصميم وابتكار مجموعة من أنماط البناء لكل منطقة, كما ذكرت سابقا, وكذلك تحديد من أربعة إلى ستة نماذج مختلفة الأحجام للمساجد, وبذلك تقل التكلفة ويسهل التنفيذ والصيانة, وأعتقد أن ذلك سيخفف كثيرا من الأعباء المالية على القطاع الحكومي والأفراد ممن يرغبون في بناء المساجد.
ولعلي أنبه هنا إلى أن تحقيق هذا الأمر على أرض الواقع، ليس بمستحيل على الجهات المعنية، أو أنه يحتاج إلى جهود جبارة، فنظرة واحدة إلى تاريخ الجزيرة العربية، يمكننا أن نستوحي من تاريخها المتجذر في الأعماق، كل النماذج المشرفة في عمارة المساجد والجوامع، ويكفي أن لدينا الفن الإسلامي التشكيلي القائم على حزمة من الفنون المختلفة، التي باتت جزءاً من تركيب الإنسان العربي المسلم، تعلمها واستوعبها، عندما فتح المسلون الأوائل كثيرا من البلاد، فاندمجت الثقافات، وتلاقحت الأفكار، وامتزجت الفنون، إلى أن بات لدينا في هذه المنطقة هوية وشخصية، علينا أن نحافظ عليها، ولا نسمح بتشويهها، خاصة إذا ارتبط الأمر بـ ''بيوت الله''.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي