مكافحة الفقر مسؤولية الدولة والمجتمع

خلق الله البشر وقسّم أرزاقهم وأحوالهم، فمنهم الغني ومنهم الفقير وفيهم السعيد ومنهم الشقي، وما ذاك إلا بقدر الله سبحانه وتعالى، فهو الرزاق الكريم، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، لحكمة لا يعلمها إلا هو. قال تعالى " لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ".
وقد كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، يرجع إلى بيته لا يجد ما يسد به رمقه وهو أحب الخلق إلى الله وصاحب الدعوة التي لا ترد، وقائد الأمة الذي دانت له الأرض، فيدلف إلى بيته مطمئن القلب غني النفس راضيا بما قسم الله له وكأنه حاز الدنيا وما فيها. علم بتقسيم الأرزاق فقنع برزقه ورضي بما أعطاه الله، سبحانه وتعالى.
الفقر لا يمكن أن يكون محصورا في نقص المال وانعدام مصادر الدخل، فكم من أغنياء هذا العصر يعيشون عيشة الفقراء وكم من الفقراء ممن يتنعمون بعيش الأغنياء، إنها بركة الله، سبحانه وتعالى، التي لا يدركها إلا المؤمنون. وقد أشار الله، سبحانه وتعالى، إلى البركة في قوله "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذبُوا فَأَخَذنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" والبركة أعم وأبقى وأنفع للعبد من المال الكثير، فلا خير في مال نزعت بركته ولو كثر.
ومع إيماننا التام بأن الله، سبحانه وتعالى، هو الرزاق الكريم، وهو من يقسم الأرزاق على عباده، إلا أن ذلك الإيمان يجب ألا يحول بيننا وبين البحث الجدي عن وسائل العلاج لمشكلة الفقر، آخذين في الاعتبار التشريعات الإسلامية التي تحث على معالجة مشاكل الحاجة والفقر ومنها الزكاة، الصدقة، وإغاثة الملهوف، ونحوها باعتبارها من الأعمال الدنيوية، أو الأسباب، غير المتعارضة مع الإيمان بقضاء الله وقسمته. بل إن الله سبحانه وتعالى جعل من إقراض الفقير إقراضا لله جل وعلى، فقال في محكم كتابه الكريم "مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِض اللَّه قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة" والله هو الغني عن عباده وهو المتكفل برزقهم جميعا "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ".
ننتقل إلى نظرة الفلاسفة إلى الفقر، فقد ذكر أحد الفلاسفة أن الفقر يكمن في الفكر والتدبير ولا علاقة له بالمال، فكثير من فقراء المال، أغنياء الفكر والتدبير، استطاعوا أن يبنوا ثروات ضخمة من العدم، أما أغنياء المال ممن يفتقرون إلى الفكر والتدبير فقد بددوا ثرواتهم الطائلة التي ورثوها أو تلك التي ساقها لهم القدر، في فترة زمنية قصيرة، فعادوا بعدها إلى الفقرين، فقر الفكر وفقر المال.
نعود مرة أخرى إلى الفقر المالي الذي بدأ يستشري بين أفراد المجتمع، الفقر الذي لم يظهر إلى العلن إلا بعد زيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز المشهودة للأحياء الفقيرة ووقوفه الشخصي على أحوال المواطنين المعوزين. فجأة أصبح الفقر قضية المجتمع بعد أن ضاع لعقود طويلة في سراديب التجاهل والنسيان. منذ زيارة الملك المشهودة بدأنا نرى الجهود الحثيثة الموجهة لمكافحة الفقر، وبدأ الخطاب الملكي لا يخلو أبدا من الإشارة المباشرة لموضوع الفقر الذي كان إلى عهد قريب يتوارى خلف أستار الحياة الطاحنة. إن تكن الزيارة الملكية لأحياء الفقراء قد كشفت لنا عن الوجه المؤلم للفقر، فإن هناك من أشكال الفقر الخفي الذي لم يكشف عنه بعد. ونقصد بذلك الفقراء الذين لا يحبون أن يظهروا إلى العلن، ولا يطالبون بحقوقهم، فهم يحملون أنفسهم فوق طاقتها من أجل صيانتها وحمايتها من الانكسار. بعض هؤلاء لا يجدون ما يطعمون به أطفالهم، ويقفون عاجزين عن مواجهة مصروفاتهم المعيشية الأساسية ومع كل ذلك لا يسألون الناس إلحافا، فهم أكثر تغييبا عن خطط مكافحة الفقر وبرامج الدعم. قال تعالى "لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ". هؤلاء يحتاجون إلى برامج خاصة تخفف عنهم آلام العوز والفاقة وآلام الانكسار.
مرة أخرى، وبعد زيارته المشهودة وخططه المنفذة خلال العام الماضي، كان موضوع الفقر حاضرا في قلب الملك، من خلال خطابه الذي وجهه إلى الأمة أمام مجلس الشورى، حيث أبدى، حفظه الله، حرصه على " مكافحة الفقر والاهتمام بالمناطق التي لم تحصل على نصيبها من التطور وفقا لخطط التنمية المدروسة". وهنا نعود مرة أخرى إلى نقطة مفصلية في موضوع الفقر وهي "التنمية" التي تعتبر الركيزة الأساسية لمكافحة الفقر. لعقود مضت ركزت وزارة الشؤون الاجتماعية على المعونات المالية المباشرة، وبعض المساعدات الأخرى ما ساعد في التخفيف من آلام الفقراء مع بقاء المشكلة الأساسية دون تغيير. بل إن مشكلة الفقر أصبحت تتعاظم شيئا فشيئا مع تعقيدات الحياة.
المساعدات المالية لا يمكن لها أن تغير في وضعية الفقراء، أو أن تحد من اعتمادهم المباشر على الغير، على عكس مشاريع التنمية التي تكفل توفير الفرص المناسبة أمام الفقراء لتحسين أوضاعهم المالية والمعيشية من خلال العمل والكسب الكريم.
تنمية المناطق الفقيرة هي القاعدة الأساسية التي يمكن من خلالها القضاء على مشكلة الفقر في سنوات قليلة، ومن خلالها يمكن القضاء على المشاكل الأخرى المصاحبة لمشكلة الفقر، كالجهل، الجريمة، التفكك الأسري، المرض، الإرهاب، وبعض المشاكل الاجتماعية الأخرى. تنمية المناطق الفقيرة تحتاج إلى مسح جغرافي شامل لتحديد المناطق المستهدفة، وتقييم الأوضاع السائدة حتى نتمكن من توجيه برامج مكافحة الفقر للمناطق والجماعات الأكثر إلحاحا وفي مدة زمنية قصيرة تضمن كفاءة الأداء وتحقيق النتائج.
اللامركزية في توجيه برامج مكافحة الفقر قد تضمن لنا النجاح السريع، وتحقق الدقة المتناهية في تحديد الشرائح المستفيدة من تلك البرامج، فأهل مكة أدرى بشعابها، كما أن نهج اللامركزية قد يكسب برامج مكافحة الفقر اهتماما شعبيا يساعد على تلقي الكثير من الدعم المادي والشعبي من الأهالي والمنشآت التجارية والصناعية.
يجب ألا نعزل الجهود الحكومية الرامية لمكافحة الفقر عن جهود المجتمع، فنحن مسؤولون أمام الله عن هؤلاء الفقراء. مسؤولية الدولة المباشرة عن خطط مكافحة الفقر لا يمكن أن تعفي المجتمع، والقطاعات الاقتصادية من تحمل مسؤولياتهم الدينية، الإنسانية، والاجتماعية تجاه المشكلة.
تنمية المناطق الفقيرة المزمع تنفيذها من قبل الدولة، إضافة إلى جهود الدعم المتوقعة من المجتمع وقطاعاته الصناعية والتجارية يمكن لها أن تسدل الستار على الجزء الأكبر من مشكلة الفقر التي تعاني منها بعض مناطق المملكة وبعض الأحياء المنتشرة في المدن الرئيسية، فيما تتعهد الجمعيات الخيرية بمعالجة ما تبقى من مشكلات الفقر البسيطة من خلال المعونات الإنسانية المباشرة التي لا تنقطع على مدار العام.
أخيرا أتمنى أن تقدم البنوك التجارية على دعم جميع الفقراء من خلال تمويل اكتتاباتهم في الشركات المساهمة، خاصة " مصرف الإنماء " و"مدينة الملك عبد الله" وشركات الغاز والطاقة المزمع طرحها قريبا، بضمان أسهم التخصيص التي ستضاف إلى محافظهم مع البنوك الممولة، ومن ثم استيفاء قيمة التمويل من بيع جزء من الأسهم المخصصة للمواطنين. فكثير من الفقراء لا يستطيعون استخدام حقهم في الاكتتاب، الذي هدف من خلاله إلى توزيع الثروة وتعويض المواطنين، بسبب عدم توافر السيولة لديهم ما يدفعهم إلى بيع بطاقاتهم بأبخس الأثمان. لو أقدمت البنوك على تبني هذا الاقتراح فستكون قد قدمت الدعم الأمثل لبرنامج الملك عبد الله بن عبد العزيز لمكافحة الفقر دون أن تخسر ريالا واحدا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي