الدبلوماسية الأمريكية.. الفقر المهني يضعف مؤسسة صناعة القرار

لن نكتب من واقع عقلية المؤامرة، باعتبار أن أمريكا شر مطلق، وأنها تعمل باستمرار لحرف مصائر الشعوب، وإلهائها عن التنمية والحضرنة والتطور، ففي أمريكا أيضا الإبداع والتقنية المتطورة والمؤسسات الرائعة والشخصيات الإنسانية في مختلف القطاعات والمجالات، وأخطاء أمريكا السياسية يجب ألا تبعدنا عن رؤية الحقائق، لكن في الوقت نفسه ندرك أن أمريكا ترقب الناس وترصد أنفاسهم وتعمل على خدمة مصالحها، ولكن وبدل من إلقاء التهم على أمريكا دعونا نعترف وأن نقول إننا ليس لدينا لعبة غير لعبة الكلام والتنفيس وأحيانا نكشف سترنا دون مقابل ودون طلب مسبق دون إغراءات وإيحاءات عربون محبة لأمريكا ولغيرها طالما أن الكلام صناعتنا الوحيدة.

صناعة الهواجس الأمنية
ولكن بعض الكلام مفيد ومهم وعلى درجة من الخطورة، ومن فنون صناعة الكلام، إدراكنا لشبق عالم الدبلوماسية للمعلومات حتى المفبركة منها طالما أن مصدرها شخصية معروفة أو مألوفة، دون التأكد من أن بيع المعلومات بات مهنة وسوقا رائجة رخيصة تبذل لأجلها الدولارات، وهناك شخصيات تمتلك قريحة بناء سيناريوهات ضخمة تمتلك عناصر التشويق الكلامي والمعلوماتي لديهم ملكة وذهنية ودهاء آرسين لوبين في خلق الهواجس والتصورات والقدرة على الاقتراب من المعلومات الخاصة، ولا تتوانى السفارات والبعثات عن اجتذاب الحديث وهذه الشخصيات بحكم الحاجة والغريزة.
وبسبب غياب المهنية فقد أصيبت الدبلوماسية بداء قصر النظر للحصول على المعلومات بأي وسيلة، وباتت تفسر المعلومات كمفسري الأحلام والمتكسبين الجدد وتضرب المندل والتنجيم السياسي للحصول عليها، عندها من حقنا أن نتساءل عن أي دبلوماسية نتحدث هذه سماتها وعناوينها، دبلوماسية، شبق المعلومات يبعدها عن المهنية لتصبح أكثر اقترابا من عرض الحال منه لقواعد وأصول العمل الدبلوماسي، لنكتشف أننا أمام دبلوماسية بلا دبلوماسيين كما ذكر جورج كينان حكيم السياسة الأمريكية الذي اعتبر الدبلوماسية أنها فن تنظيم وترتيب العلاقات مع الخارج!!
المشهد الدبلوماسي وحسب ما يرويه الأمريكيون أنفسهم وبحسب الوقائع أن أمريكا بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) اختلف كثيرا في قواعد عمله وتراجعت سلامته المهنية في السياسة والأمن والاقتصاد وتدنت ممارسته لمستويات ابتدائية، وهذا بالطبع انعكس على قدرات القرار السياسي والأمني الأمريكي، وكلفها في أحايين كثيرة كثيرا من الأخطاء والمصائب أيضا، والسبب أن مروجي المعلومات كثر بينما من يقف على مهمة تقييم المعلومات لا يتسم عمله بالمهنية والاحتراف بل له موقف سياسي وأيديولوجي منها ما أسهم كثيرا في فهمها على نحو مخالف لحقيقتها، ولعل ما جاء به "ويكيليكس" يعكس جانبا من الهشاشة المهنية التي تعيشها الدبلوماسية الأمريكية عبر فقدان أصولها، لدرجة تظهر وكأنها دولة من العالم النامي مؤسسات وأفراد بلا تجربة وبلا معرفة.

أمريكا بين الأيديولوجيا والتسليع
السقوط الكبير كان في التراجع عن القيم الليبرالية الأمريكية إلى قيم المحافظة والانغلاق السياسي وتضمين السياسة وتطعيمها بنكهة دينية، ومن اقتصاد السوق ومن دعه يعمل دعه يمر، إلى الحماية والرقابة والتدخل، وهذه النسخة من المفكرين والاستراتيجيين كان لها كهنتها يدعون بالمحافظين الجدد أو التيار الأرثوذكسي في السياسة الأمريكية، فحضرت التفسيرات الدينية في السياسة الأمريكية، وخاصة الإنجليكانية والمؤرخين الجدد، وهذا الحضور أسهم في تراجع القيم الديمقراطية، قيم المساءلة والرقابة والتشريع والقانون لصالح قوى مسيطرة وذات مصالح أسهمت هي الأخرى في حدوث الأزمة المالية العالمية، وفي تعديل الخطوط الاستراتيجية الأمريكية لتصبح في أعلى ذروتها السياسية تفكر بمنطق من هو ليس معي فهو ضدي وعدو عدوي صديقي.
هذه التعبيرات السلوكية بحسب الاختصاصين تشير إلى أنها سلوكيات حدية وصفرية، فهم متطرف وإقصائي، وهنا يطرح سؤال كبير حول كيف يستعصي على أمريكا وإداراتها تبني سياسات عدة لتحقيق أهدافها دون اللجوء إلى هذا الخطاب السوداوي، كيف تصارع وتعادي وتتعاون دون أن تفقد جوهرها وقيمتها، لكنها بهذا الخطاب رجعت واشنطن لمنطق الكاوبوي، لا إلى مدارس التفكير والعلم الاستراتيجي، ولهذا لا نستغرب كثيرا عندما يؤكد الرئيس بوش الابن أنه لا يعلم ما هو تنظيم القاعدة إلا بعد استلامه رئاسة الولايات المتحدة، ولم يعلم ما هي حركة حماس وحزب الله إلا بعد وقت، وأنه أخطأ كثيرا في أحاديثه الصحافية وفي رسائله كونه لم يكن على علم ودراية مسبقة بما يتحدث فيه، ويكفي ما قاله جيرهارد شرودر المستشار الألماني السابق فيه: بعد لقاءين اكتشفت أن الرئيس الأمريكي بوش محدود الذكاء ولا يمكن التوصل معه إلى تفاهم ما.
يقول جورج تينت مدير المخابرات الأمريكية الأسبق كنت ميالا إلى الضحك وأنا أراقب وزير خارجيتنا كولن باول يستعرض أمام أعضاء الأمم المتحدة إمكانات وقدرات العراق النووية ويثير فزعهم، برسومات غير واقعية، تنفيها معلوماتنا لولا أني كنت على يقين أن قرار الحرب على العراق اتخذ قبل 11 من أيلول (سبتمبر) وأن إزاحة صدام كانت هي الهدف، لذا بحثت الإدارة الأمريكية عن معلومات تحقق هذا الهدف.
ويضيف جورج تينت في موقع آخر لقد كانت مهمتنا في المخابرات الأمريكية أن نسهم في صناعة القرار لا أن نتخذ القرار، فهذه مهمة الرئيس وطاقمه السياسي وعلى كل منا أن يتحمل مسؤولياته، وهنا نرى كيف يتسم سلوك جورج تينت بالمهنية الأمنية بينما يجافي متخذ القرار السياسي ورجال العمل الدبلوماسي هذه الحقيقة، لا بل أن الرئيس الأمريكي جورج بوش في كتابه اتخاذ القرار يؤكد أن الأخطاء التي وقع فيها ناجمة عن ضعف المعلومات وحمل كادره الرئاسي مسؤولية ضعف المعلومات وهشاشتها لدرجة قوله لهذا فقد اعتمدنا على معلومات قدمها لنا الأصدقاء، ويقصد طبعا في كيفية احتلال العراق لنرى على الناحية الأخرى قول مسؤول في المخابرات العراقية (موفق الربيعي) يقول لقد عملنا في المعارضة ما بوسعنا لدفع أمريكا لإنهاء ظاهرة صدام حسين وأقنعناها بأن دخول العراق سيلقى ترحيبا وسيقدم لهم العراق على طبق من ذهب ويقابل الأمريكان بالورود، فيما يذهب الرئيس العراقي جلال الطالباني إلى هذا المنحى بقوله لم نجد بدا من الضحك على أمريكا لتخليصنا من صدام حسين، فيما رأينا كيف أن وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد طارد بانفعال أحمد الجلبي بسبب معلومات زوده بها الجلبي قيل إنها غير دقيقة.
وعلى الناحية الأخرى، وفي كتابه في منتصف العاصفة يؤكد جورج تينت أنه رفض طلب للرئيس الأمريكي بيل كلينتون في محادثات واي ريفر أن يطلق سراح جونثان بولارد الجاسوس الأمريكي لإسرائيل لأن نتنياهو قرن موافقته على الاتفاق بإطلاق سراح جونثان وبرر تينت عدم قبوله بقوله للرئيس كلينتون: سيدي الرئيس كن واثقا بأن أمرا مثل هذا لن يصدر عني مطلقا أنت سياسي ودبلوماسي وأنا رجل أمن ونحن نعمل لمصلحة أمريكا، لكن تقديري الأمني يدعوني لعدم إطلاق سراحه مطلقا لسبب رئيس أني أريد أن أوضح للناس والعالم أن من يخون وطنه يجب ألا يكافأ وألا يكون ضمن أي مساومة أو صفقة، وثق سيدي الرئيس إذا ما صحوت ووجدت أنكم وافقتم على إطلاق سراحه فثق عندها لن تجدني في مكتبي، وهذا يوضح الفاصل الكبير بين المهنية الأمنية وبين سيولة وميوعة الدبلوماسية السياسية، وكيف انتصر تينت في المحصلة، ولهذا السبب هناك فروقات مهنية كبيرة بين التقارير الأمنية السرية وبين عروض الحال الدبلوماسية التي تعوزها الدقة والمعرفة وتنقصها الخبرة كونها تقارير بسياقات مبتورة.
ولا يفوتنا القول إن الدبلوماسية الأمريكية اغتصبت منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، حيث غاب عن المسرح الدبلوماسي كثير من الكوادر الكفوءة بسبب سيطرة المحافظين الجدد على القرار السياسي الأمريكي، وجاءت هذه الحقبة من الدبلوماسية انعكاسا لتلك المرحلة، ولعل من يقرأ المراجعة الدبلوماسية التي تمت عام 2007 تحت عنوان كبير اسمه Future Diplomacy يستقرئ من العنوان أنه تعبير عن وجود أزمة في المهنية الدبلوماسية أصابت مختلف البعثات الدبلوماسية الأمريكية في مختلف دول العالم لدرجة الأمية الدبلوماسية.

السحر ينقلب على الساحر
لا نشكك بقدرات وإمكانات أمريكا لكن السحر ينقلب على الساحر، فسيل المعلوماتية، وأدواتها التقنية الهائلة، وغياب الضوابط، وانكشاف الدول والمجتمعات، أيضا كشف جوانب معتمة ومظلمة في السياسة والتفكير الأمريكي، كالجرائم اللاأخلاقية واللاإنسانية التي تمت في أفغانستان وجوانتانامو وفي أبو غريب ونقلت عبر النت، ولهذا يقول تينت في محاضرة له أمن أمريكا لا تحميه الصواريخ العابرة للقارات، أمن أمريكا أصبح يتأثر بعوامل أخرى لها القدرة على التأثير وبالحجم نفسه، إنها القوى التي استفادت من التقنية، قوى مصادر تأثيرها موجودة في أسواق الخردة، لكنها فردية ولكنها مؤثرة في الأمن القومي الأمريكي، ولا نستغرب قول الرئيس أوباما في أحد خطبه في أيار (مايو) 2009، حيث قال: إن الرخاء الاقتصادي للولايات المتحدة في القرن الـ 21 بات مرتبطاً بالأمن الإلكتروني للبلاد، وفي أول إطلالة صحافية يقول كيث الكسندر مسؤول الأمن الإلكتروني الأمريكي، رئيس القيادة العسكرية للأمن الإلكتروني في الثالث من حزيران (يونيو) إن النظام الإلكتروني لوزارة الدفاع الأمريكية يتعرض يومياً لنحو ستة ملايين هجمة، فماذا لو دخل القراصنة للوائح الإلكترونية الخاصة بالأسلحة الاستراتيجية مثلا يجيب كيث: إن رخاء أمريكا وقوتها يجعلها هدفاً لهجمات الحرب الافتراضية، ويشكل خطراً كبيراً على الجيش الأمريكي، لأنه يعتمد في عملياته بشكل أساسي على الشبكات الإلكترونية في القيادة والاتصالات والعمليات الاستخباراتية واللوجستية. وأمام هذه المخاطر عملت وزارة الدفاع الأمريكية على رفع خبراء الكومبيوتر العاملين فيها إلى أربعة أضعاف لحماية أنظمتها الإلكترونية.
إذن انقلب السحر عندما تمكنت التقنية والمعلومات أن تفضح جانبا من الستر الأمني الأمريكي، كما يفعل "ويكيليكس" اليوم، فالعالم السايبيري عالم ليست أمريكا لاعبا وحيدا فيه، بل هناك لاعبون كثر وعلى قدر كبير من الأهمية وخزائن الأسرار قد لا يمكن إغلاقها بإحكام أمام شياطين الإنترنت لأن بعضها كان من صناعة أمريكية، وتمرد عليها كما تمردت القاعدة وغيرها من التنظيمات المتطرفة التي أسهمت السياسة الأمريكية في صناعتها مباشرة أو غير مباشرة.
فقد أضحت الإنترنت جزءا مهما وعنصرا فاعلا فيما يعرف بالإرهاب الرقمي أو الإرهاب الإلكتروني في ظل عصر العولمة والمعلوماتية هنا توضح التقارير أن ألمانيا رصدت 130 مليون يورو لمراقبة الإنترنت، غير أن الخبير الألماني آرني جراسر من معهد التقنيات الإعلامية والفنية في مدينة كارلسروه يرى أن مراقبة الإنترنت أشبه ما تكون بـ "لعبة القط والفأر"، حيث تحاول السلطات الأمنية الملاحقة والمتابعة والإرهابيون بدورهم يبذلون كل جهد مستطاع لتجنب هذا الأمر من خلال ابتداع وتطوير أساليب جديدة.
الخطة العالمية الجديدة هي إدامة الفوضى والتناقضات وأن يعيش العالم حالة من الصراع والصدام والفوضى وفقدان اليقين السياسي، وأن تمطر وسائل الإعلام العالم بكثير من المعلومات، أن ينشغل العالم في التحليل وتخبطات التحليل أن يغرق ويصبح غير قادر على تحديد أولوياته، أن تفتقد الثقة بينه ومختلف مؤسساته ورموزه، أن يدرك العالم أن أسراره مكشوفة وبكبسة زر، أن يصاب العالم بالعري المعلوماتي والانكشاف والوهن الأمني، أن تصبح قيمة الدولة في الارتباط السياسي مع الولايات المتحدة موازية لقيمة ارتباط الأفراد والمؤسسات بها، ولهذا ليس غريبا أن يهرب شاعر صعلوك تطاول على القدسيات الدينية لتصبح أمريكا الملاذ الآمن له ولغيره ولتتدخل الدبلوماسية الأمريكية لأجله، مثلها فعل أيمن نور في مصر وموسى حوامدة في الأردن.

متغيرات الدبلوماسية الأمريكية
موقع ويكيليكس الإلكتروني يثبت أن اسيانج ليس شابا مخمورا يحمل معلومات سرية تركها على مقعده في فندق أو مطعم، أو شاب مجند لصالح الموساد الإسرائيلي، أو سفاح ويتحرش جنسيا بفتيات، رغم أن المعلومات تفيد بأن خزان المعلومات الويكيليكسية يزود من تل أبيب، حسب مصادر معلوماتية، فإن الرئيس أوباما جاء وفي نيته التغيير، وفي نيته (حل الدولتين) وأعلن ودق صدره أمام العالم الإسلامي في القاهرة واستنبول وجاكرتا ولم يحصل الشرق الأوسط إلا على مبعوث دمث يطير بعدة اتجاهات، ستنتهي مهامه قريبا ليعين خلافه مارتن آنديك السفير الأمريكي الأسبق في تل أبيب.
ونحن نتحدث عن أهمية المعلومات دورها في صناعة القرار السياسي يذكر مستشار سابق في الرئاسة العراقية أنه أقيل من منصبه لسبب رئيس أن المسؤول ليس من المختصين في تقدير المعلومات وتقييمها، ولهذا كان يطرب لتقارير التفخيم والتضخيم ويستاء لتقارير تعكس حركة الواقع، وقال إن الدبلوماسيين وجدوا الثناء على تقارير مزورة وحصلوا على ترقيات، بينما دبلوماسيي المهنية حوربوا، وذكر أن سفير العراق الأسبق في تونس كتب تقريرا لا يقره عاقل حول شعبية صدام حسين في تونس وتجاوزها لشعبية الرئيس زين العابدين بن علي، الأمر الذي دعا السفير للاستقالة والانشقاق على حكومته بسبب عدم رضاه عن هذه التقارير التي يتخذ على ضوئها قرارات مصيرية حاسمة.
لكن أمريكا ما زالت تمارس اللعبة، تضخيم وشيطنة إعلامية، ودراسات تحليلية تؤكد هذه الشيطنة بلغة الأرقام وتثير الهواجس الأمنية، وأقلام وأفواه تنتصب على صدر الصفحات والفضائيات وليصبح الجهلة محللين استراتيجيين وبعقود كبيرة، ومؤسسات الأمن الإنساني والعون الإنساني، والمجتمع المدني تجوب المدن والقرى للحصول على المعلومات والمساهمة في التوتير وليس الإصلاح، وعندها تصبح مصائر الأمم والشعوب على كف عفريت، عندها نكتشف أن بعض الحروب جرت بسبب معلومات تعوزها المصداقية واحتلت دول بمعلومات سياحية، وعندما غرق الأمريكان في وحل أعمالهم كان لابد من توزيع دم العراق على قبائل المعارضة ومزودي المعلومات التي استسمنت من جوع وتطوعت برخص.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي