صحة خادم الحرمين وعودة الأمير سلطان والتأييد الشعبي
كانت صحة خادم الحرمين الشريفين مثار اهتمام عالمي وإقليمي ومحلي، أولا لمكانته السياسية والعالمية وثانيا لمكانة المملكة ودورها الفاعل في مختلف القضايا الدولية، ولولا بيان الديوان الملكي والشفافية والوضوح العالي لفسر كثير من دوائر الاستطلاع أسباب غياب الملك خادم الحرمين للمرة الأولى عن المناسبة الأكبر عالميا وهي مناسبة الحج، تفسيرا في غير محله ومكانه، لكن بيان الديوان ولقاء خادم الحرمين الشريفين ووضوحه مع مواطنيه بأنه تعرض لوعكة صحية زادها حديث الملك طيبا عندما قال يقولون عنه عرق النساء والنساء لم نر منهن إلا كل خير.
هذا الوضوح وهذه الشفافية في العرف السياسي الدولي ممكنة جدا إلا في حالة المرض، فكثير من الزعامات والمسؤولين ورجال الأعمال يخفون ما أمكن هذا الجانب في حياتهم ويبقى قيدا سريا لا يطلع عليه أحد ويحرصون على ألا يكون متداولا بين وسائل الإعلام، ونحن نعلم في هذا الميدان كيف تصارعت أجهزة أمنية عالمية في سبيل معرفة مرض الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ إيل مثلا، وكيف اضطرت بكين للكشف عن أنه بصحة جيدة وأرسلت وفدا رسميا للقاء به، وعندما ظهر للعلن بهت الذين حللوا سر اختفائه من وكالات استخبارية ومحللين، لدرجة أن الموساد الإسرائيلي أيضا هلل وطبل كونه قد حصل على أسرار مرض الرئيس السوري حافظ الأسد، وعدّ ذلك في حينه نصرا استخباريا.
هنا في المملكة الوضع مختلف تماما، فعندما ذهب الأمير سلطان - حفظه الله ورعاه - في رحلة علاجية كانت أخبار الأمير على صدر الصفحات نقلتها "واس" وتنقلها الصحف السعودية وتتابعها باستمرار بيانات الديوان الملكي وكان الأمراء من أبناء الأمير يطمئنون المواطنين على صحته لحظة بلحظة، وكانت على الجانب الآخر الصحافة الغربية والصحافة الإسرائيلية تشعل فتيل حرب معلوماتية حول صحة الأمير - عافاه الله وأمد في عمره - ولو قدر للمتابع أن يستطلع فقط ما كانت تكتبه مجموعة (ديبكا فايل الإلكتروني) القريبة من الاستخبارات الإسرائيلية، لقلنا إن إسرائيل تعلم بكل شيء، فتبين فيما بعد أنها آخر من يعلم عن سر قوة الأمير وسر ابتسامته التي أعيت المحللين، فالقوة الرئيسة متمثلة في الإيمان والقضاء والقدر وبمحبة الناس ودعواتهم.
وقبل ولي العهد كانت صحة الرئيس المصري محمد حسني مبارك مثار اهتمام إسرائيل تحديدا، وكيف كانت الصحافة العالمية تبذر تكهناتها هنا وهناك وتستطلع الآراء وتعمل على تحويرها وتزويرها، وتابعت حالته الصحية منذ وقوعه في مجلس الشعب المصري وصولا إلى مشفاه في ألمانيا وفترة النقاهة في شرم الشيخ، وكانت الصحافة الإسرائيلية وتقارير الاستخبارات تقرأ ما بين العيون والجفون وتحاول جاهدة كي تحصل على مبتغاها لكنها إرادة الله الغالبة دائما، فها هو الرئيس محمد حسني مبارك يتمتع بالصحة والعافية ويقوم بجولات داخلية وخارجية كانت آخرها جولته الخليجية.
مع إعلان الديوان نبأ تعرض خادم الحرمين الشريفين لوعكة صحية وإعلانه أنه بخير، واستقباله جموع المسؤولين والمواطنين، وتوديعه من قبل ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز نائب الملك، والنائب الثاني الأمير نايف بن عبد العزيز وأمير الرياض الأمير سلمان بن عبد العزيز وعدد كبير من الأمراء حتى بدأت الصحافة العالمية تحليلاتها غير المنطقية وغير الموضوعية - وكلها تعني أن المملكة في عين ودائرة الاهتمام العالمي والإقليمي، وأضعفها وهجا وضوح أخبار العملية الجراحية الأخيرة ونجاحها في مستشفى نيويورك برسبيتريان.
تكليف سمو ولي العهد بإدارة البلاد طيلة فترة غياب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، جاء كالصاعقة على بعض دوائر الاستطلاع والتحليل ذات البعد الأمني، فالبعض بدأ ينشط ويختلق الصور والتحليلات، لكن عودة ولي العهد وإنابته إدارة البلاد أكدت أن النظام السياسي في المملكة العربية السعودية يتمتع بقوة عالية ونظم واضحة ومعالم راسخة ومستقرة، وأن التحليلات مهما كانت طبيعتها لن يكون بمقدورها الغوض في حقيقة الحكم، وطبيعته وأصوله ومهنيته، فقد قطع ولي العهد إجازته وعاد إلى بلاده لتحمل المسؤوليات التي أناطها به خادم الحرمين الشريفين، وضاعفها تطمينات ولي العهد شعبه أن صحة خادم الحرمين بخير وأنه يتماثل للشفاء.
الوضوح والاستقرار في سياسة الحكم والدولة كانا سببا رئيسا في الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، في حالة الاطمئنان الكبيرة لدى المواطنين، فإن ودعوا خادم الحرمين وهم يدعون له بالشفاء استقبلوا أيضا ولي العهد والأمير سلمان أمير منطقة الرياض بكل التقدير والاحترام، في حين بعض الدول الرئيسة تؤثر هذه التفاعلات فيها على المشهد الاقتصادي والسياسي، لكن الأمر هنا في المملكة العربية السعودية مختلف تماما كونها مدرسة المهندس والمؤسس الأول الملك عبد العزيز بن سعود - طيب الله ثراه.
هذه المدرسة وهذه المنهجية في الحكم لا تخضع للتقلبات النفسية وتحكمها قيم الإدارة السياسية وقيم الإدارة المجتمعية، وقيم العادات والتقاليد وقيم الرسالة الإسلامية ومصدرها الكتاب والسنة، فهي قيم متجلية ومستقرة وأصبحت أعرافا دستورية، يعرفها الجميع كونها أصول عمل سياسي وتراث طويل من الحكم.
ما يهمنا في هذا الباب أن التحليلات سواء انطلقت من الغرب أو الشرق، سواء قام بها المحبون أو المبغضون، ستبقى تحليلات بعض أدواتها الحقيقية ناقصة، لأن من يجهل منهجية الحكم ولا يعلم مكونات السياسة السعودية ولا يدرك أثر المؤسس في بناء القاعدة الفكرية والسياسية وآليات الحكم طبعا ستأتي تحليلاته شاذة ناقصة ولن يحفل بها وإنما هي موجة اعتادت المملكة عليها منذ زمن طويل وخبرتها ولها معرفة بها متى تنطلق ومتى تختفي ومن القائمين عليها.
تكشف هذه الحالة عن قدرات النظام السياسي وقوته وديناميته أيضا قدراته في معرفته الحقيقية لعلاقته الكبيرة مع مواطنيه، للثقة الكبيرة التي تجعل من التصريح تأييدا سياسيا كاملا وشاملا، واستطلاعا للحب والاحترام، تعزيزا للثقة ونفيا عن مخترعات مختبرات التحليل ودوائر تصنيعها كما درجت عليه الصحافة الإسرائيلية وبعض الغربية.
هذه النظم يتسم سلوكها العام بالسماحة وتمتلك قدرة تامة على التوظيف والاستعياب، وتمتلك تأييدا شعبيا واسعا، وتدرك تمام الإدراك أن وضوحها ومواطنيها هو مصدر قوة لها وهو تجديد للثقة مرة بالدعاء ومرة بالحفاوة الغامرة في الاستقبال، وهي تضرب المثل دائما أنها الأرقى في أدواتها السياسية، فالملكيات ميزتها الاستقرار وميزتها الوضوح والشفافية، وميزتها أن قنوات الاتصال فيها مفتوحة وليست مغلقة وأحيانا مباشرة، وأن مسيرة الحكم فيها ممتدة ومتتابعة وأن كل مرحلة لها ظروفها لكنها في الإطار العام تؤكد للناس أينما كانوا أن ثبات التقاليد السياسية ورسوخها ووجود إرث سياسي كبير هو الذي يصنع القيادة ويمتعها بالعقلانية السياسية والهدوء السياسي وغياب الانفعال والإنجرار وراء مغامرات سياسية اتضح أن رؤية المملكة لها كانت ثاقبة وبعيدة النظر.
حالة الاستلهام والإدراك الاستراتيجي ليست سهلة في عالم متقلب في بيئات سياسية متغيرة، وأن صناعة الاستقرار ليست بالأمر السهل على نظم حكم تعيش في أوساط إقليمية متغيرة سياسيا ومتغيرة أيديولوجيا ومتغيرة من حيث القوة وتوزيعاتها ومتغيرة من حيث رؤيتها الاستراتيجية في علاقاتها الإقليمية والدولية.
هذا الاستلهام هو مدرسة سعودية جعلت بعض الخبراء يقولها صراحة، جميع الأمراء في المملكة يدرسون وينهلون من كتاب واحد، وزادها أيضا خبير آخر أنه ليدهش تمام الاندهاش بحرفية البروتوكول السعودي، بهذه التراتبية بهذا الانضباط الكبير، وهذا بالطبع تكمن في سره قوة الدولة وحيويتها ورسوخ مبادئها وديمومة منهجها السياسي.
القافلة السعودية تسير، بكل ثقة، وبكل أمانة، ولا يعرف خصوصيتها ومعدنها غير السعوديين أنفسهم، وأهل مكة أدرى بشعابها، وغبار التحليلات سينجلي وستتعزز يوما بعد يوم القناعة الراسخة، بأن النظم الملكية أكثرها استقرارا وأكثرها وضوحا، وأكثرها ضمانا للمستقبل، وأكثرها وأكفأها علاقات فاعلة وراسخة ومستمرة على الصعد: العالمي والإقليمي، والداخلي. فحمى الله المملكة ورد خادم الحرمين سالما معافى وزاد ولي العهد طيبا وابتساما، وحينها فلتذهب تحليلات المغرضين إلى الجحيم.