«ساهر» هل من جديد؟

وهل بقي شيء يمكن أن يقال عن «ساهر» وتداعياته بعد مئات المقالات والنقاشات؟
نعم بقي..
بقي أن نسأل أنفسنا بعيدا عن كل المادحين والناقدين والناقمين، ماذا علمنا «ساهر» هذا عن أنفسنا؟ وماذا علمنا عن فلسفة التغيير في مجتمعنا؟ كلما سرت في شارع سريع ورأيت الغالبية العظمى من الناس تسير بشكل هادئ ومتحضر سألت نفسي هذا السؤال.
أظن أنه يوجد الكثير مما يمكن أن نتعلمه من تجربة «ساهر».
ولعلي أبذل معكم اليوم جهدا متواضعا في محاولة استخلاص شيء مما يمكن أن نتعلمه، وسيفوتني الكثير.
أولا: لقد شبعنا عويلا عن مشكلات قيادة المركبات في بلادنا، سئمنا من البكائيات صباح مساء، ولم يبق بيت إلا ونبض فيه الألم والعذاب، لكننا لم نخرج إلا قليلا من دائرة ردود الأفعال، ولم يحدث أي تغيير حقيقي جذري في طريقة تعاملنا مع هذه المشكلة الاجتماعية والصحية الخطيرة جدا، وبغض النظر عما نعتقده في «ساهر» فإنه فيما يبدو لي محاولة التصحيح الجذري الوحيدة التي حدثت خلال الفترة الماضية، وقد أثبتت فاعلية كبيرة فيما يبدو من النتائج والأرقام المبدئية وستثبت الأيام فاعليتها الكبيرة مع الوقت فيما أظن. أمثال هذه الحلول الجريئة العميقة لمشكلاتنا شيء افتقدناه طويلا. صحيح جدا أن الكثير من حلول مشكلاتنا المزمنة إذا لم تدرس وتنفذ بالطريقة الصحيحة قد تنتج هي نفسها مشكلات جديدة، لكن لا بد من المبادرة وعمل شيء، ويبدو لي أن هذا الشيء في هذه الحالة هو عمل مدروس ومخطط ويسير على أسس واضحة. إذن هو خطوة في الطريق الصحيح وعمل إيجابي ومبادرة فعالة بدلا من نوبات الصراخ المزمن الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. لو بادرنا لحل مشكلاتنا الشخصية والعامة بمثل هذه الجرأة والقوة فسيحل الكثير مما كنا نظنه مستحيل الحل.
ثانيا: «ساهر» هو نموذج للتفكير الجديد وغير التقليدي. هو نموذج للتفكير خارج الصندوق (صندوق الحلول السابقة في بلادنا على الأقل، حيث توجد هذه التقنيات في الكثير من الدول منذ سنوات). نموذج فيه استلهام لتجارب الآخرين واستفادة من خبراتهم. وفي نظام «ساهر» تجاوز ذكي للعقد المزمنة الأخرى، التي طالما رددها البعض والتي أخرت الحلول لدينا سنوات طويلة. يقول الكثيرون: ليس لدينا عدد كاف من رجال الأمن والمرور الذين هم على درجة كافية من الوعي والقدرة على التعامل مع المشكلة، ويقول آخرون: المشكلة هي الجمهور الذي لا يلتزم بالأنظمة ولا يحترم رجل المرور، ويقول البعض: المشكلة في الانتقائية في تطبيق النظام. وعلى الرغم من وجاهة جميع هذه الاعتقادات وغيرها من الأسباب الحقيقية فإن التكنولوجيا هي المفر الآمن لتجاوز العديد من هذه العقبات. أنت الآن تنقل القضية من كسل بعض الموظفين، ومن تهاون بعض رجال المرور، ومن فظاظة بعض السائقين ورعونتهم إلى عدسات «ساهر» ودقة أجهزة الرصد، وكفاءة الاتصال. هناك حلول كثيرة لمشكلاتنا في التقنية إذا استخدمناها بالشكل الصحيح. بقي أن يحرص الإخوة الفضلاء القائمون على هذا النظام على جودة عملية التطبيق ودقة التنفيذ والاستفادة من ملاحظات الناس والاعتذار عن الأخطاء إن وجدت والاستمرار في التوعية والتثقيف ومواصلة نشر النتائج الحقيقية الواقعية للنتائج الملموسة للتطبيق. كلنا نعرف أن أذكى المشروعات وأفضلها يمكن أن يفشلها تطبيق سيئ أو رأي عام قوي مضاد.
ثالثا: من قال إن سائقينا لا يتغيرون؟ وإن سائقينا ليس فيهم أمل؟ وإن سائقينا غير متحضرين ووو؟ صحيح جدا أن ثقافة الطريق ضعيفة لدى أغلبنا وأن الكثير من سائقينا لم يدركوا بعد أن كتلة الحديد التي بين أيديهم قد تقتل أحدا وأن الطريق حق للجميع، لكن إلى متى ونحن نقول هذا الكلام؟ الوجه الآخر من الحقيقة هو أن سائقينا باختصار لم يتعودوا سنين طويلة على نظام صارم يلتزمون به ولم يشعروا بنتائج ومحاسبة آنية سريعة على تصرفاتهم. فمتى ما وجد النظام التزم الناس، وهذا يثبت لنا أننا في النهاية بشر مثل باقي البشر (على الرغم من الخصوصية السعودية التي أصبحت عائقا يتشدق به أعداء التطوير) تسري علينا ذات القوانين والسنن التي تجري على الناس. عندما أرى السيارات حولي تسير بسرعة معقولة هذه الأيام في الكثير من الشوارع (بسبب ساهر) أذكر نفسي أن سياسة (الجزرة والعصا) (أي الثواب والعقاب الآني) وأن النظام الصارم لا يزال هو المؤثر الأول في الكثير من المجتمعات وخاصة في المجتمعات النامية. لا شك أن الأدبيات والدراسات في علم النفس تدل بوضوح أن سياسة (الجزرة والعصا) لم تعد فعالة على المدى البعيد في الكثير من المجتمعات، وأن ما يحرك الناس وينظمهم ويحفزهم انتقل إلى مراحل أكثر تحضرا وأليق بعقول الناس مثل الإقناع والمشاركة والحوار والتوعية، ولا شك أننا في حاجة إلى الكثير من ذلك أيضا، لكننا لا بد أن نتذكر دائما أن أننا في حاجة إلى الاثنين معا وأن الثقافة والوعي والتحضر يساعد عليه النظام الذي اعتاد الناس عليه فترات طويلة. نحن في حاجة إلى مشروع توعوي مروري مؤثر، وإلى وسائل احترافية لـبثّ ثقافة مرور جديدة، لكننا في حاجة أيضا إلى نظام صارم يطبق على الجميع بمصداقية عالية لفترات طويلة من الزمن. بهاذين الخطين المتوازيين معا، نستطيع أن نسير في شوارعنا بأمان ـــ بإذن الله ـــ ونستطيع أن نحل الكثير من أمراضنا المزمنة. كما أنه يمكننا أن نتعلم من «ساهر» أننا في حاجة إلى حلول جديدة ومبتكرة وأن ننتقل من ردود الأفعال إلى عمل جريء، وأن ننتقل من الاعتماد على التثقيف فقط إلى حرفنة التثقيف وضبط النظام، وأن نفكر خارج الصندوق ونستعين بالتقنية.
لا بد لنا في هذه المرحلة أن نستلهم المقولة العبقرية من إينشتاين «لا يمكننا حل المشكلات القائمة بالعقلية التي أوجدتها نفسها».

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي