مُوجبات تغير الفتوى (2 من 3)

تحدثنا في المقال السابق عن موجبات تغير الفتوى، والآن نستكمل ما بدأناه:
3ـــ تغير الحال، وكثيرا ما يقع. فحال الضيق غير حال السعة، وحال المرض غير حال الصحة، وحال السفر غير حال الإقامة وحال الحرب غير حال السلم، وحال الخوف غير حال الأمن، وحال القوة غير حال الضعف، وحال الأمية غير حال التعلم. والمفتي الموفق هو الذي يراعي هذه الأحوال، ولا يجمد على حكم واحد أو موقف واحد وإن تغيرت الأحوال. وقد رأينا النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ يمنع الصحابة في مكة من أن يحملوا السلاح ليقاتلوا دفاعا عن أنفسهم، وهم يأتون إليه بين مضروب ومشجوج، ويأمرهم بالصبر وكف اليد، حتى إذا هاجر إلى المدينة وأصبح لهم دار ودولة أذن الله أن يقاتلوا (وإن الله على نصرهم لقدير). وكذلك كان ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ يراعي أحوال الصحابة، فيخفف عن الضعفاء ما لا يخفف عن الأقوياء,، وقد يرى المفتي أن يفتي لمستفت في موضوع بالتشديد، ويفتي لمستفتٍ آخر في الموضوع نفسه بالتخفيف، فيشدد على هذا، أو يخفف على هذا، لاعتبارات يراها هو تتعلق باختلاف حال كل منهما. كما روى أحمد، أن النبي سئل عن القبلة للصائم فرخص لسائل ونهى سائلا آخر عن القبلة في أثناء الصيام. وبالبحث تبين أن أحد السائلين كان شيخا فرخص له أن يقبل، وكان الآخر شابا فنهاه عن التقبيل، وقد كانت إجابات النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ تختلف من شخص إلى آخر، عن السؤال الواحد؛ لأنه كان يراعي أحوال السائلين، فيعطي الإجابة لكل منهم بما يلائم حاله. وفتوى ابن عباس في توبة قاتل النفس: شهيرة في ذلك وكان الفقهاء من أصحاب النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ ينهجون هذا النهج في الفتوى. ومن ذلك أنه جاء رجل إلى ابن عباس فقال: يا بن عم رسول الله، هل للقاتل من توبة؟ فصعد ابن عباس النظر فيه وقال له: لا، ليس للقاتل من توبة. وعندما ذهب الرجل قال أصحاب ابن عباس له: كنا نسمع منك قبل غير هذا؟ فقال: إني نظرت في وجهه فرأيته مغضبا، يريد أن يقتل رجلا مؤمنا. هذا ما دفع ابن عباس لأن يقول له: لا توبة للقاتل. ولو أتاه الرجل وقد قتل (أو ارتكب أي ذنب)، وسأله عن التوبة لقال له: باب التوبة مفتوح و(قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم). لكن الرجل كان يحمل حقدا على آخر، وينوي قتله، ويريد أن يأخذ فتوى مسبقة، فسد عليه ابن عباس الطريق؛ ولذلك قال العلماء: "الفتوى قبل الابتلاء بالفعل تختلف عن الفتوى بعد الابتلاء بالفعل".
4ـــ تغير العرف
ومن موجبات تغير الفتوى المنتشرة: تغير العرف الذي بنيت عليه الفتوى القديمة، وهذا مما نص عليه العلماء السابقون، فيما يوجب تغير الفتوى، ذكر ذلك القرافي المالكي وابن القيم الحنبلي، وابن عابدين الحنفي، وغيرهم. والمراد بالعرف: ما اعتاده جماعة من الناس وتعارفوه بينهم من قول أو فعل، حسنا كان أو قبيحا. فلا شك في أن هناك أعرافا حسنة محمودة، وأعرافا أخرى سيئة مذمومة. ومن المعلوم: أن الفقه الإسلامي يراعي أعراف الناس، ويبني عليها أحكاما، بقيود وشروط معينة، أهمها: ألا تخالف نصوص الشرع وقواعده. وإنما اعتبر العرف؛ لأنه يعلم أن الناس ما أنشأوا هذا العرف وتمسكوا به، إلا لحاجتهم إليه، ولأنه يحقق لهم مصلحة، فراعى الفقه ـــ المعبر عن الشرع ـــ حاجة الجماعة ومصلحتها، فاعتبر العرف ورعايته من أدلته التبعية، لكن الإشكال، هو أن العرف الذي بنيت عليه أحكام، وترتبت عليه آثار، إذا تغير هل يظل الحكم السابق ساريا مع هذا التغير؟
الذي قرره المحققون من العلماء في مختلف المذاهب: أن الفتوى ـــ تتغير بتغير العرف، حيث لا يجوز إبقاء الفتوى القديمة ـــ المؤسسة على عرف تغير ـــ على حالها. قال القرافي في كتابه "الإحكام" في السؤال التاسع والثلاثين: "ما الصحيح في هذه الأحكام الواقعة في مذهب الشافعي ومالك وغيرهما، المرتبة على العوائد والعرف اللذين كانا حاصلين حالة جزم العلماء بهذه الأحكام؟ فهل إذا تغيرت تلك العوائد وصارت العوائد تدل على ضد ما كانت تدل عليه أولا، فهل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في كتب الفقهاء، ويفتى بما تقتضيه العوائد المتجددة؟ أو يقال: نحن مقلدون، وما لنا إحداث شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد فنفتي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين؟ (ثم يجيب عن هذا السؤال بقوله:) إن استمرار الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد: خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديدا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد"، ونلاحظ هنا: أن كلام القرافي إنما هو في الأحكام التي مدركها ومستندها العوائد والأعراف، لا تلك التي مستندها النصوص المحكمات. وتحدث القرافي في هذا الموضوع مرة أخرى في كتابه "الفروق" في حديثه عن الفرق الثامن والعشرين فيؤكد: أن القانون الواجب على أهل الفقه والفتوى مراعاته على طوال الأيام، هو: ملاحظة تغير الأعراف والعادات بتغير الزمان والبلدان. ويقول: "فمهما تجدد من العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طوال عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك، لا تجبره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأجره عليه، وأفته بذلك، دون عرف بلدك، والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين، والسلف الماضين".
أما عند الحنفية فنجد مجموعة كبيرة من الأحكام الاجتهادية التي قال بها المتقدمون أعرض عنها المتأخرون، وأفتوا بما يخالفها؛ لتغير العرف، نتيجة لفساد الزمن، أو غير ذلك، فإن أئمة المذهب أنفسهم ـــ أبا حنيفة وأصحابه ـــ قد فعلوا ذلك. ذكر السرخسي: أن الإمام أبا حنيفة في أول عهد الفرس بالإسلام، وصعوبة نطقهم بالعربية، رخص لغير المبتدع منهم: أن يقرأ في الصلاة بما لا يقبل التأويل من القرآن باللغة الفارسية، فلما لانت ألسنتهم من ناحية، وانتشر الزيغ والابتداع من ناحية أخرى، رجع عن هذا القول. وقد أصبح من القواعد الفقهية الأساسية عند الحنفية: قاعدة (العادة محكمة) واستدلوا لها بقول ابن مسعود: (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن). وكتب في ذلك علامة المتأخرين ابن عابدين رسالته القيمة التي سماها: "نشر العَرف فيما بني من الأحكام على العرف"، بيَّن فيها أن كثيرا من المسائل الفقهية الاجتهادية مبنية على العرف. ولهذا قالوا في شروط المجتهد: ولا بد فيه من معرفة عادات الناس. قال ابن عابدين: "فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه، للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد، لبقاء العالم على أتم نظام، وأحسن إحكام)، ومن قرأ كتب الفقه ـــ على اختلاف مذاهبها ـــ وجد فيها أحكاما وفتاوى مبنية على أعراف زمانها، لكنها اليوم تبدلت إلى أعراف أخرى، فوجب أن تتبدل الفتوى أو الحكم بتبدلها وفق أسس منضبطة، ولا سيما في عصرنا الذي تغيرت فيه أشياء كثيرة جدا في حياة الناس، نتيجة للتطور العلمي والتكنولوجي، خذ مثلا بعض الأعراف التجارية والمالية الحديثة فيما يتعلق بصرف الشيكات المصرفية.. فلو اعتبرنا القبض كما قرره الفقهاء (يدا بيد، أو هاء وهاء) لحرمنا التعامل بالشيكات وهي ضرورة الآن؛ ولذلك وجب على الفقيه أن يعتبر العرف الجاري: أن الشيك يحتاج إلى يوم أو يومين وقد يحتاج إلى أكثر من ذلك كما إذا صدر يوم الخميس محولا على بنك خارجي، ويوم الجمعة عندنا عطلة، ويوما السبت والأحد عندهم عطلة، فيؤدي ذلك إلى تأخر صرف الشيك. وكل هذا ليس مدعاة إلى هدم قطعيات الشريعة الإسلامية باسم العرف إنما الكلام في الأحكام المتغيرة المبينة على علل وظروف معينة، وللحديث مزيد بقية في المقال القادم ـــ بإذن الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي