لعنة المناصب

القيمة الحقيقية للإنسان ليست فيما يضاف إليه من خلال منصبه أو ماله أو جاهه أو حسبه أو نسبه، بل القيمة الحقيقية له فيما يضيف هو إلى مجتمعه من خير ومنفعة، فالإنسان السوي هو الذي يستطيع أن يكسب احترام الآخرين بما يمتلكه من قدرات ومهارات شخصية، استطاع بتوفيق الله ثم بإمكاناته أن ينميها ويطورها ويجعلها أنموذجا يحتذى، فهي رأسماله الذي يمتلكه، أما ما يضاف إليه من مال أو جاه أو منصب فهي أمور غير مضمونة ولا مستقرة على الإطلاق.
ما يلاحظه كثير منا أن بعض الأشخاص ما إن يتقلد منصبا ما إلا ويصبح شخصاً مختلفاً تماماً وتبدأ ملامح اختلاف الشخصية من خلال عديد من الشواهد المختلفة، منها عدم الرد على الهاتف سواءً كان الثابت أو الجوال أو عدم الرد على الرسائل الهاتفية، كما يقوم بوضع الحواجز البشرية والصناعية حوله، فالوصول إليه يصبح أحد المستحيلات، فهناك مكتب الاستقبال ثم السكرتارية ثم مدير إدارة المكتب ثم مدير المكتب ثم المشرف على المكتب، وإن حظيت بشرف مقابلة صاحب هذا المنصب فقد لا تتجاوز تلك المقابلة الدقائق المعدودة التي قد يتخللها عدد من الاتصالات الهاتفية وقراءة بعض الخطابات وتوقيع بعض المستندات.
يخبرني أحد الزملاء أن أحد المسؤولين تم تعيينه قبل عدة أشهر في أحد المناصب، وقد كان هذا المسؤول بسيطاً في تعامله مع الآخرين يرد على أي اتصال يأتيه وإن لم يكن يعرفه، بل إنه يقوم هو بالاتصال على الآخرين في المناسبات وتبادل التهاني معهم والأخبار، ومنذ أن تقلد ذلك المنصب وعلى مدى أكثر من ثلاثة أشهر لم يستطع أحد الوصول إليه، على الرغم من الاتصالات المتعددة على جواله والرسائل المتوالية التي تترك لمدير مكتبه أو ترسل على جواله ولكن دون جدوى، ويؤكد هذا الزميل أن هذا المسؤول كان من الذين يحبون التواصل مع الناس بل ويسعون في مصالحهم ويحرصون على مساعدة الآخرين، لكن مع الأسف ما إن تقلد ذلك المنصب إلا وأصبح شخصية مختلفة تماماً، لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال وسائل الإعلام.
إنني أشعر وكأنها لعنة تصيب بعض الذين يتقلدون المناصب فتبعدهم عن مجتمعهم وتطردهم من بيئتهم، فتراهم يتحولون إلى شخصيات مختلفة تماماً وتتغير حياتهم تغيرا جذرياً، وكأن هذا المنصب قتل شخصياتهم وسحق كل القيم الموجودة في دواخلهم، فهم لا يعرفون إلا أصدقاء المصالح والمنافع ولا يردون إلا على هواتف رؤسائهم ولا يستمعون إلا لمن يعتقدون أنه سيسهم في استقرارهم في مناصبهم، وينكرون معرفة كل صديق قديم بل قد يتبرأون من صلتهم بكل قريب حميم ويصبحون بين ليلة وضحاها شخصيات غريبة تتحدث بأسلوب غريب وتتحرك بطريقة غريبة، يسبقها أسطول من المساعدين ويتلوها أسطول من المتابعين، يتفضلون على الناس بمقابلتهم ويتكرمون عليهم بالشرح على معاملاتهم التي كثيراً ما تكون بكلمة تقليدية معروفة (حسب النظام).
وتستمر لعنة المنصب لبعض أولئك، فهم يختفون فجأة بعد أن يتركوا مناصبهم التي تقلدوها سواءً بإقالتهم أو بناء على طلبهم، فلا تكاد تسمع لهم ذكرا أو ترى لهم أثرا، بل ربما يظنهم البعض قد ماتوا وهم أحياء، فبعد أن كانت سمعتهم وسيرتهم تملأ الأرجاء عند وجودهم في مناصبهم تراهم اليوم وقد أصبحوا من التاريخ، لا أحد يعرف مصيرهم.
إننا نرى يومياً كثيراً من مثل هذه الأمثلة التي يجب علينا أن نتأملها ونتدبر في شأن أصحابها، وأن ننصح كل صاحب منصب بألا يغتر بمنصبه وألا يجعل ذلك المنصب يغير من شخصيته وأسلوب حياته، وأن يتمسك بمبادئه وأخلاقه، فالمناصب تأتي وتزول ولا يبقى للإنسان بعد ذلك إلا ذكره وسيرته.. فانظر يا صاحب كل منصب، كيف تريد أن يتذكرك الناس، لأنك لن تبقى في منصبك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي