أين النبلاء؟!
يذهب البعض مخطئاً أن النبلاء طبقة من المحاربين ظهروا في العصر الوسيط بأوروبا الملكية, وكان يجمع هؤلاء الفضيلة والشجاعة وشدة الانتماء والثروة ''الإقطاع''؛ بما أغدق عليهم نظير إنجازاتهم العسكرية الخارجية والحفاظ على الاستقرار الداخلي ضد أي مؤامرة خاصة أو ثورة عامة.
الصحيح أن النبالة مفهوم أخلاقي قدم الإنسان ذاته ينتظم فيه: الصدق، والاحترام, ففي عهد أور - نانشي 2500 ق . م . ملك لقش (دولة المدينة الرافيدنية الجنوبية بالعراق) كانت له تجارة مزدهرة مع شرق الجزيرة العربية وأظهرت آثار الألواح المنحوتة أنه كان يمتلك سفناً تستورد الخشب من دلمون ومن البلدان الأجنبية''.
ومن تجار دلمون ''البحرين'' رجل يدعى ''إيا - ناسر'' الذي كان يتخذ من ''أور'' بالعراق قاعدة له, وكان يتاجر بقوالب النحاس من ''مجن'' (عُمان حالياً) وقد أظهرت الرسائل التي وجدت سليمة في خرائب بيته، منها رسالة ''ناني'' الذي شجب سلوك ''إيا - ناسر'' بغضب قائلاً له: ''والآن عندما أتيت قلت: سأعطي ''جيميل - سين'' قوالب نحاس جيدة، هذا ما قلته لي عندما أتيت (من دلمون إلى أور) لكنك لم تفعل ذلك. لقد قدمت لمبعوثي قوالب سيئة، وأنت تقول، إذا كنت ستأخذها فخذها وإذا كنت لن تأخذها فأغرب. من أنا حتى تعاملني بهذه الطريقة، تعاملني بمثل هذا الاحتقار. وبين نبيلين مثلنا! لقد كتبت إليك لكي تستلم الدراهم، لكنك تجاهلت ذلك. فمن من بين تجار دلمون تصرف ضدي بهذه الطريقة''.
إن رسالة ''ناني'' قبل ''4000'' سنة توضح لك أن النبالة هي الصدق والاحترام في التعامل مع الآخرين متبعاً للأعراف المحمودة.
أما في الشرق فيطلق على النبيل ''بالساموراي'', أو بلغة اليابان ''البو - شي - دو'' وتعني طرائق الفارس المحارب, أي الطرائق التي يتعين على النبلاء المحاربين الالتزام بها في حياتهم اليومية, وكذلك في غمار اضطلاعهم بواجبات مهنتهم وباختصار فهي ''وصايا النبالة'': الاستقامة أو العدل، الشجاعة وروح الجسارة والتحمل، الرحمة والتعاطف، اللطف والتهذيب، الصدق والإخلاص، الشرف، واجب الولاء''.
يقول ''نيتوبي'' في كتابه البوشيدو روح اليابان: ''ارتفع شأن الساموراي ليصبحوا المثل الأعلى الجميل للأمة اليابانية بأسرها، وتتردد على ألسنة العامة أغنية تقول: ''الساموراي سيد الرجال, كما زهرة الكرز الملكة المتوجة على الزهور'' وإذا كانت الممارسات التجارية قد حظرت على الطبقة العسكرية, بالتالي فإنها هي نفسها لم تكن مصدر عون للتجارة إلا أنه لم تكن هناك قناة للنشاط البشري ولا ميدان للفكر لم يتلق بدرجة أو بأخرى قوة دفع من ''البوشيدو'', فقد كان فكر اليابان وأخلاقها بصورة مباشرة أو غير مباشرة من إبداع الفروسية. ويقول ''مالوك'' في كتابه ''الاستقراطية والتطور'' بأن: ''التطور الاجتماعي الذي يختلف عن التطور البيلوجي يمكن تعريفه بأنه: النتيجة غير المقصودة المترتبة على نوايا العظماء'' فضلاً عن ذلك فإن التقدم التاريخي يحدث عادة نتيجة صراع: ''لا بين أعضاء الجماعة بصفة عامة من أجل العيش، وإنما صراع بين أعضاء شريحة محدودة من الجماعة على القيادة والتوجيه والتشغيل بالنسبة للأغلبية بأفضل وسيلة''.
ومن نبلاء العرب قبل الإسلام, الكريم ''حاتم الطائي'', الذي أُسرت ابنته في إحدى الغزوات فأؤتي بها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم وهو سيد نبلاء الأرض: فكوا أسرها لأن أباها كان يحب مكارم الأخلاق, أخرجه أحمد وإسناده حسن (لما جيء بأسرى قبيلة طي إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، تقدمت إليه بنت جميلة، ووقفت أمامه، وأخذت تتكلم، فتعجب الناس من فصاحتها وبلاغتها، ومما قالته: يا محمد أعتقني من الأسر، أنا ابنة شريف قومي، كان أبي ملجأ الحيارى، يفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العريان، ويرعى حق الجار، ويكرم الضيف، ولا يأتيه طالب حاجة إلا ورجع مسرورا, أنا ابنة حاتم الطائي, فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: يا جارية إن ما قلتيه هي صفة المؤمن، ولو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه ، ثم قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: فكوا أسرها، لأن أباها كان يحب مكارم الأخلاق. فطلبت من الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أن تدعو له، فاستمع - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى دعائها، قائلةً: أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم إلا جعلك سبباً في ردها عليه، ثم إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أرسلها مع بعض الثقات، إلى عشيرتها) .. انظر لهذا الإسلام المتسامح الأبي .. أن أباها كان يحب مكارم الأخلاق .. فالكريم كافر, ومن استفاد من كرمه كفار إلا أن النبيل نبيك فقد بعث - صلى الله عليه وسلم - ليتمم مكارم الأخلاق.
إن دين محمد - صلى الله عليه وسلم - دين ليس باستئصالي منغلق, إنه يتشاطر مع الإنسانية بقيم يقدرها ويعترف ويكافئ فاعلها فلا يخاف التصنيف أو التخوين أو التديين (من الدونية) بل يصدع بالوسطية ''العدل '' وهو الذي نطق بالوحي'' القرآن'' القائل فيه تعالى: ( وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (8) ( المائدة.
الشاهد ... النبيل عند العرب مفهوم أخلاقي يرتكز على العطاء ومنهم الكريم وصاحب الفزعة وأكبر الفزاعين العرب قبل النبوة هو ذاته - صلى الله عليه وسلم - حينما جاء إلى خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها) خائفاً من الوحي حينما قال له: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) ( العلق, فقالت خديجة يا محمد إن الله لن يخزيك فعددت سمات النبالة فيه فقالت: (كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدهر''. (أخرجه البخاري).
أما النبيل في الإسلام فهو صاحب مكارم الأخلاق أي الرجل أو المرأة الذي أو التي سلمت من النفاق العملي فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يحدد مواصفات غير النبيل فيقول: ''أية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر'' (أخرجه البخاري ومسلم).
فالنبيل صادق أمين حليم محترم.
وأطلب منك عزيز القارئ .. أن تلتفت يميناً وشمالاً حولك وتستعرض المحيطين بك فرداً فرداً ثم تقول لي ما النتيجة؟ النتيجة أن النبالة عزيزة فلن يلقاّها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم .. هذه سنة الله في خلقه فسواد الناس يتأرجحون بين صفة وأخرى فما أكثر الناس ولو رغبنا بنبلاء ... لكنني على يقين أن أكبر مخزون بشري للنبالة في العالم هو في الجزيرة العربية لا محالة , وإليك قصة واحد منهم وهو: ''معشي الذيب'' يحكى أن ذئباً هرماً عوى بألم من شدة الجوع بليلة شاتية بأحد بوادي الجزيرة, فما كان من صاحب الغنم إلا أن ذبح شاة وقدمها للذئب كي يوقف ألمه, فما برح الذئب إلا أن شبع وغادر المكان .. بالله عليكم أيفعلها غير إنسان الجزيرة، نعم قد يفعلها إنسان آخر لكنه ليس على هذا الكوكب.
ومن النبلاء بالمملكة العربية السعودية الضابط الساهر يقظاً على الأمن ونحن نيام أو يتعقب جريمة كبرى فيوقع فاعليها فيريح البلاد والعباد, أو النبيل ذلك الرجل في أروقة الحكم والسياسة يفتش عن الحكمة فينصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين, أو هو المسؤول الكبير بإحدى الوزارات أو الهيئات يعمل بجد ونشاط ونظافة نحو التحديث ولا يرجو إلا الله ثم الوطن, أو هو ذلك العالم والمفكر ومدير المدرسة المشغول والمهموم بمستقبل أجيالنا أو هي تلك المرأة الساعية على المريض والأرملة والمطلقة والمعوق والمسكين وابن السبيل ثم تعود للمنزل متعبة لمنح التربية والحنان, أو النبيل هو شيخ القبيلة أو الوجيه في قومه فيصلح ذات بينهم فيكسو المعدوم ويعين على نوائب الدهر وناره في مجلسه لا تنطفئ ثم يتحمل صفاقة الغبي وسفاهة الجاهل وغيبة الحاسد, أو النبيل هو الشاب في مقتبل العمر القادم من أقاصي الوطن يكد ليل نهار ليعول شيخاً وأماً وأخواته البنات فيحفر في صخرة المعرفة والالتزام المهني كي يفوز برضاهم, أو النبيل ذلك الشيخ الداعية المقاصدي الذي يحمل هم الناس والوطن على رأسه فلا يرجو لهم إلا البر والسؤدد, تحسبه غنياً من التعفف وهو يستدين فيعطي ويعطي حتى لا يقول الناس الدين خذلنا, ثم يحارب من البطّالين بالتصنيف والتخوين الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
أو النبيل ذلك الأديب الأريب, وجهه طلق ولسانه يقطر معرفة ويزرع الخلق الرفيع والعادات والأعراف الحميدة.
إن هؤلاء النبلاء يتصرفون بمسؤولية كبرى كأنما كل حجر ومدر وبشر من الوطن هو جزء منهم يحدثونك عن الماضي بإباء وعن المستقبل بأمل, الأكيد أنهم يمشون على الأرض واثقين بالله ثم بالقيادة يحبون أن يشيع الخير بين الناس, يعضون على أحزانهم وآلامهم, يغضبون ثم يكتئبون ثم يعودون من جديد فيستأنفون المسيرة وقد نسوا الماضي ولا يعرفون إلا الله ثم الوطن ..
إن هؤلاء يستحقون منا الوفاء, فخسارة نبيل هو نقص للوطن وزيادة نبيل زيادة, وما علينا إلا السؤال عنهم فهم يظهرون للناس كالأثرياء, وهناك آخرون أثرياء يظهرون كالفقراء .. إننا تواقون لجائزة الدولة التقديرية لأمثال هؤلاء تمنح في اليوم الوطني كل عام فيعمّم النموذج وتقدّر النبالة فتنبعث فوارة كل عام للسلام على كبير النبلاء ..
أما عن مونتسكو صاحب كتاب روح الشرائع, مبتكر نظام فصل السلطات الثلاث (التنفيذية - التشريعية - القضائية).
يقول: ''إن عماد النظام الديمقراطي الصوت الانتخابي, وعماد النظام الشمولي القهر وتملك وسائل العنف, أما النظام الملكي فعماده النبلاء''.
أيها السعوديون .. إن الحياة ليس لها طعم أو لون أو رائحة أو أمن من دونهم.