الفلسطينيون .. لا بديل من العودة إلى «اتفاق مكة»
الوحدة الوطنية الفلسطينية اليوم في نفق مظلم لا يتبيَّن في نهايته أفق. لم تعد قيد أحكام الأزمة الشديدة التي استبدت بها منذ ما يزيد على ثلاثة أعوام فحسب، إنما انتقلت من حال التأزم إلى حال الانسداد مهددة وحدة الشعب والأرض والقضية بالانفراط الكامل.
وليس الانتقال الدراماتيكي هذا بسبب الانقسام الحاد على الخيارات السياسية بين فريق يراهن على التسوية وينخرط في تفاوض عبثي، لن يقود إلا إلى المتاهة، وفريق يتمسك بخيار المقاومة من دون أن يقاوم، ولا بسبب الشغف الشديد بالسلطة الذي أبدته ــ وتبديه ــ حركتا ''فتح'' و''حماس'' على نحو تخشى معه الواحدة منهما من مصالحة تفقدها ''ضيعتها السياسية''، وإنما قبل ذلك كله وبعده وفضلا عنه ـــ لأن المعالجات السياسية للانقسام الداخلي الفلسطيني لم تكن فاعلة وناجعة بحيث تحمل القبلتين السياسيتين المتناحرتين على أن تفيئا إلى خيار الوحدة الوطنية. أما سبب عدم الفاعلية والنجاعة في تلك المعالجات، فيعود ــ في المقام الأول ــ إلى كونها ما كانت معالجات متوازنة توفر الطمأنة الكاملة لفريقي الخلاف.
#2#
نحن لا نتحدث هنا عن محاولات الحوار الوطني الفلسطيني الداخلي التي فشلت تباعاً، لأنها لم تصدر عن إرادة صادقة في إنهاء حالة الاستثناء ولا قامت على قاعدة مشروع سياسي جدي لاحتواء الخلاف وترشيده وطنياً، إنما نتحدث عن محاولات الرعاية العربية للحوار الوطني الفلسطيني والمعالجة السياسية للأزمة. ذلك أنه بمقدار ما امتنع الحل السياسي من الداخل، للأسباب التي ذكرنا، وتبررت شرعية التدخل العربي في الأزمة، بمقدار ما تبينت وجوه القصور في ذلك التدخل، وأظهر تلك الوجوه على الإطلاق افتقاره إلى الحد الأدنى من شروط الرعاية وهو الحياد والتوازن في المواقف والموقعية المتساوية في المسافة مع كل أطراف الأزمة. والحاصل من تجربة إخفاق الرعاية العربية لنازلة الانقسام الفلسطيني أن النية الطيبة للقوى الراعية في استيلاد حلول للأزمة لا تكفي وحدها كي توفر القاعدة الصلبة لتلك الحلول، إنما تحتاج فوق ذلك ــ وقبله ــ إلى حساسية سياسية تلحظ مصالح الجميع وتأخذها في حسبان المعالجة بما يجعلها في نظر المختلفين معالجة متوازنة ومطلوبة.
ومن أسف أن مثل هذه المعالجة كان في الوسع اجتراحها لو حصل حولها اتفاق عربي على مثال ما حصل في مؤتمري الطائف (8989) والدوحة (2008) ووضع خاتمة لفصول مؤسفة من المنازعة اللبنانية الداخلية باللسان والقلم والسلاح، لكن شروط إنضاج مثل هذا التوافق العربي ما توافرت بعد في نطاق العلاقات العربية ـــ العربية لأسباب عدة ليس هنا مجال البيان والإفاضة فيها. والحاصل أن ما يبدو اليوم من رعاية عربية للحوار الوطني الفلسطيني ليس موضع وفاق عربي حوله، وإنما فرضته ظروف طارئة لم يكن للقرار الرسمي العربي فيها رأي.
وليس في هذا الذي قلناه ما يفيد أن الرعاية العربية الرشيدة والمتوازنة للحوار الفلسطيني ممتنعة أو مستحيلة، وإنما التنبيه إلى أنها غائبة اليوم، وهذا سبب فشل الحوار بين الفصائل الفلسطينية ومراوحته عند نقطة الصفر منه. أما إمكان مثل هذه الرعاية العربية البديل فمتوافر متى توافرت الإردة العربية وصدقت النيات وكان قرار الرعاية مستقلا عن الإملاءات الخارجية.
ولقد شهدنا قبل سنوات مضت, وقبل ازدياد الشرخ الفلسطيني الأخير, مثالا لتلك الرعاية العربية المتوازنة للحوار بين الحركتين المتنازعتين, ومثالا لما تستطيعه حين تكون كذلك, أي متوازنة. لقد كان اتفاق مكة ثمرة سياسية في غاية الأهمية والقيمة لتلك الرعاية التي تأكد بها الدور السياسي السعودي المتوازن تجاه الخلافات الداخلية العربية.
قضى ''اتفاق مكة'' في جملة ما قضى به من أحكام باحترام الوحدة الوطنية الفلسطينية ووحدة مؤسسات السلطة, مثلما قضى بتقاسم السلطة شراكة بين الحركتين, وخرج الموقعون عليه من الحوار بحقوق متوازنة على قاعدة ''لا غالب ولا مغلوب'', وما كان لأحد منهم أن يشعر بالحيف من القسمة, وتلك من أسباب قوة تلك الرعاية التي أخذت الفريقين إلى الاتفاق, ولو قيض لذلك الاتفاق أن ينفذ, لوفرت الساحة الفلسطينية على نفسها كل هذا السيل المنهمر من وقائع الفرقة والشقاق التي عاشتها منذ سنوات ولا تزال الوحدة الوطنية تدفع غراماتها الباهظة حتى اليوم. لكن الذي لا مرية فيه أن انقلابا على الاتفاق أعد بإحكام من قبل إسرائيل وحلفائها الذين استشعروا خطورته على سياسة اعتمدت الإيقاع ودق الأسافين بين ''فتح'' و''حماس'' بوصفها أقصر السبل لنقل المعركة السياسية إلى داخل فلسطين ومؤسساتها وشعبها وفصائلها.
لقائل أن يقول إن الشروط التي كتبت لـ ''اتفاق مكة'' النجاح قبل سنوات هي عينها التي ستحول اليوم دون العودة إليه, أو دون نجاحه. والشروط التي يعنيها قائلو هذا القول هي توافر إرادة المصالحة الوطنية والحل السياسي لأزمة الصراع على السلطة آنذاك بين ''فتح'' و''حماس'', وحاجة كل منهما إلى حصة في تلك السلطة. وبيان ذلك ــ عند القائلين به ــ أن ''فتح'' كانت في مسيس الحاجة إلى اتفاق يقر لها بالحق في الشراكة في إدارة حكومة لا تسمح لها نتائج انتخابات المجلس التشريعي لا بتشكيلها منفردة أو عبر تحالف, ولا بالمشاركة فيها بحصة تناسب حجمها التمثيلي في المجلس التشريعي, لأن نظام التمثيل ليس قائما على النسبية. أما ''حماس'' وإن كان حقها الدستوري في تشكيل الحكومة ثابتا لا لبس فيه, تخشى أن تحكم من دون غطاء فتحاوي من جهة, وتخشى من قرار إقالتها من قبل رئيس السلطة من جهة أخرى. وفي الحالين تجد في مثل ''اتفاق مكة'' ضمانة لمصالحها في السلطة ناهيك عما يوفره لها من شرعية عربية رسمية.
#3#
وهكذا سيقال إن الظروف تلك تغيرت الآن, خاصة منذ تعمق الانقسام بين الضفة وغزة وفتح وحماس, فقامت حكومتان وانهارت الصلات بين أراضيهما والمواطنين فيهما, وذهبت السلطة مجددا صوب التفاوض ونشأت رعاية عربية أخرى للأزمة والحوار بعد الرعاية السعودية ... إلخ. وهي جميعها, في نظر القائلين, أوضاع لا تسمح بالعودة إلى أحكام ''اتفاق مكة'' وتنفيذها أو استئناف الحوار الوطني على قاعدة معطياتها السياسية.
والحق أن هذا القول غير ذي موضوع, وأن فرضية تغير الظروف التي أثمرت ''اتفاق مكة'' لا تعدو أن تكون فرضية ليس لها من اليقين الثابت حظ كبير. ذلك أن الانقسام إذا كان قد تعمق أكثر من ذي قبل, وهذا صحيح, فإنه لم يكن الحل الذي يأمله أحد من الفلسطينيين والعرب, ولا معنى للتحجج به لاستصعاب إرادة البحث عن وفاق وطني. بل إن استفحال ذلك الانقسام اليوم والعجز الفلسطيني والعربي عن احتواء نتائجه ومخاطرها, هو بالذات ما يعيد الاعتبار إلى ''اتفاق مكة'' بحسبانه الاتفاق الوحيد الذي يضمن وفاقا وطنيا متوازنا. أما أن السلطة أوغلت في تسوية ترفضها ''حماس'', فهذا ليس جديدا في العلاقة بين الفريقين وما كان الخلاف بينهما حول التسوية غائبا حين وقعت الحركتان على ''اتفاق مكة''. ثم من قال إنهما لا تحتاجان اليوم إلى هذا الاتفاق .. هل وجدتا بديلا منه كي تتجاوزا الحاجة إليه؟
ليس أمام الوفاق الوطني الفلسطيني من سبيل إلى التحقق والرسوخ وطي صفحات النزاع الداخلي على هدية ''أوسلو'' المسمومة (= السلطة), سوى العودة إلى ''اتفاق مكة'' والالتزام بأحكامه. كل تباطؤ, كل تردد, كل تحجج بأن هناك مساعي أخرى للحل لن يفيد أحدا, حتى لا نقول إنه يمثل نوعا من الغطاء السياسي لاستمرار حال الاهتراء والتعفن في جسم العلاقات الداخلية الفلسطينية. وكم سيكون ذا أثر أن تتخذ الدولة الراعية للاتفاق مبادرة بدعوة الحركتين من جديد للبحث في سبيل تنفيذ أحكام ما وقعتا عليه في مكة.