تأملات رمضانية! (2 من 4)

- ‏يفاجأ الناس بأن حرارة رمضان تتوغل ارتفاعا فتتصاعد معها المعاناة ويصبر المؤمنون ‏..‏ إنه نوع من الجهاد‏ ..‏ الصبر جهاد‏ ..‏ إنه جهاد مع النفس ..‏ ولا شيء يجعلها تقف أمام العطش والجوع إلا ارتواء وشبع من منابع أخرى ‏..‏ إنها منابع الروح حيث التلذذ بالطاعة والامتثال: خوفًا وطمعًا وحبًا ..‏ إنه الحب الذي يأخذ بالقلب والعقل فتتراجع معه وتتوارى كل الغرائز المادية والحسية فيشعر الإنسان بأنه يعلو ويرتفع نشوةً وسرورًا وبهجةً تدخل الفرحة القلوب‏!
- الإسراف في أي شيء مكروه، ويرتفع كثيرا إلى مراتب عليا في التحريم؛ وفي تناول الطعام يؤدي إلى انخفاض كفاية الجسم وقدرته على النشاط البدني والذهني‏، ونحن في شهر رمضان المبارك يسرف الكثير منّا في تناول الطعام؛ ما يؤثر في حُسن العبادة؛ لذلك كان لقمان ينصح ابنه بقوله: ''يا بُني إذا امتلأت المعدة‏، نامت الفكرة‏، وخرست الحكمة‏، وقعدت الأعضاء عن العبادة''؛ وإذا كانت جميع الدراسات الصحية قديمًا وحديثًا قد توصلت إلى ضرورة عدم الإسراف؛ فإن القرآن الكريم قد سبق ذلك عندما ذكر في آياته الكريمة القاعدة الصحية في التغذية: ''وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين‏''.‏ وأفضل طريقة لتنفيذ هذه القاعدة الصحية ما ذكره الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ''نحن قوم لا نأكل حتى نجوع‏، وإذا أكلنا لا نشبع'' وقال أيضًا: ''كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيّلة ولا إسراف‏''.‏
- يستنفر سلوك التجمع والتوحد‏ المسلمين، ‏في شهر رمضان المبارك‏، حيث يلتقون في ربوع الأرض على مائدة واحدة في توقيت غروب شمس كل يوم‏ ..‏ وهم في هذا التوقيت ‏..‏ بكل تأكيد صف واحد‏ ..‏ ولا ينقصهم سوى تطبيق هذا السلوك الشعائري في حياتهم اليومية‏ ..‏ أعني شؤون الدنيا التي لا تنفصل عن شؤون الدين ‏..‏ فيتوحد هدفهم سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ويعيشون العصر بآلياته ولغته‏، ويكون لهم دور فاعل في المجتمع الإنساني ولا يكتفون برد الفعل ‏..‏ وحين يتم لهم ذلك‏ ..‏ فلن يكون في مقدور أي قوة أن تتحكم في مصائرهم وتفرض عليهم إرادتها وتنفث فيهم سمومها‏..‏ وأذكر هنا بالقول المأثور‏ ''إنما يأكل الذئب من الشاة الشاردة‏''!‏
- الصيام يضفي الإحساس بصفاء الروح‏ والتقرب إلى الله والشعور بأن هناك علاقة متينة مع الله، عبر تلاوة القرآن والصيام في شهر رمضان‏.‏ كذلك الشعور بأن أبواب السماء مفتوحة في هذا الشهر الكريم والتوبة تقبل وكثرة الدعاء قد تزيح من على النفس الإحساس بالذنب‏ ..‏ والصوم يجعل الإنسان في حالة من الشعور بالارتياح والاسترخاء وكذلك الشعور بوحدة المشاركة يخفف على الإنسان الشعور بالوحدة والغربة‏.‏
- في الصيام‏، يتعاظم شعور الصائم بالمحروم وبالفقير، حيث تتنامى الحاسة العاطفية بالتآخي معه، ويبعث الوعي العاطفي ويقويه ويحركه. والصيام يهدئ من روع الإنسان‏، ويبعده عن سرعة الإثارة والغضب ويجعله يتحكم في أعصابه ويمنعه من انفلات هذه الأعصاب، والتحكم في الأعصاب‏‏ يقوي إرادة الإنسا، وبالتالي تحقق التوازن النفسي والإقلاع عن العادات السيئة‏، إضافة إلى أن الصوم يجعل الجهاز العصبي في حالة استرخاء ويضفي على النفس الشعور بالهدوء والراحة النفسية والإحساس بالسيطرة على رغباته والانتصار عليه، وذلك كله يرفع ثقته بنفسه فترتفع معنوياته ويبعد عنه شبح الإحساس بالدونية وعدم الثقة بنفسه!
- الجو الروحاني الخاص الذي يميز هذا الشهر المبارك من المشاركة العامة بين الأفراد في تنظيم أوقاتهم خلال اليوم بين العبادة والعمل في فترات محددة وتخصيص أوقات موحدة يجتمعون فيها للإفطار‏، وهذه المشاركة في حد ذاتها لها أثر إيجابي من الناحية النفسية في المرضي النفسيين الذين يعانون العزلة ويشعرون بأن إصابتهم بالاضطراب النفسي قد وضعت حاجزًا بينهم وبين المحيطين بهم في الأسرة والمجتمع‏ ..‏ وشهر رمضان بما يتضمنه من نظام شامل يلقي بظلاله على الجميع حين يصومون خلال النهار‏، وتتميز سلوكياتهم عموما بالالتزام بالعبادات‏، ومحاولات التقرب إلى الله تعالى‏، وتعم مظاهر التراحم بين الناس ما يبعث على الهدوء النفسي والخروج من دائرة الهموم النفسية المعتادة التي تمثل معاناة للمرضى النفسيين فيسهم هذا التغيير الإيجابي في حدوث تحسن في حياتهم النفسية.
- رمضان قد يكون مناسبة جيدة ليعود فيها المسلمون إلى أنفسهم ويتدبروا أمورهم ويدرسوا ما وصل إليه حالهم من ضعف‏‏ وهوان حتى أصبحوا هدفا للأعداء‏، وفي رمضان علينا كمسلمين فرادى وجماعات أن نعود إلى ينابيع الدين الإسلامي‏، ونستلهم من تعاليمه القيم التي غفلنا عنها مثل الصبر والتمسك بحبل الله والتعاون‏، ليتم تبديل هذا النموذج الراهن للمسلم بنموذج المؤمن القوي الذي ورد في الحديث الشريف‏، الذي هو أفضل وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف‏.‏.. (يُتبع).

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي