نموذج الوزير المفكر
كثيرة هي الأسماء قليلة جدا هي النماذج، فبين مهام الوزارة وبريق الألقاب وتعلق الناس ومصالحهم؛ ينجو من المصيدة قلة قليلة ''قليلة'' جدا، وشهود الإثبات في نهاية المطاف هم شهود النفي عند بداية المسيرة. ممارسة الصلاحيات والجلوس على مقاعد الأضواء، والاستئثار بصدور المجالس وقصائد المادحين؛ لم ولن تكن يوما التحدي الحقيقي لمن جلسوا على أرفع مقاعد العمل العام, فعُرفوا بها أو عُرفت بهم، والفرق بين هذا أو ذاك؛ كالفرق بين من تحمله الشهادة وبين من يحمل الشهادة، أو كالفرق بين الوزير المفكر والمفكر الوزير.
يرحم الله غازي القصيبي؛ فقد شكل النموذج والظاهرة، ومضى في عباءة الوزير وصمت المفكر المتأمل؛ لا تقيّمه تقارير الأداء الحكومي، ولا نقاد القصة والقصيدة؛ إنما قلوب الناس الذين يفرحون بالمخلصين الجادين الذين إذا حملوا الأمانة لم يلتفتوا حولهم وبينهم, إنما يطلون على وطنهم بكل عين ومن كل زاوية. وجلت قلوبهم من هم المسؤولية، وتاقت أنفسهم لخدمة وطنهم، قرأوا احتياجات الناس من شفاه من ولوهم الأمانة، فعاشوا هم الوطن والمواطن، ولم تشغلهم قط مدة التكليف أو فرص التمديد أو احتمالات الإعفاء بطلب أو من دونه؛ فساروا بشجاعة وترجلوا من مراكب المسؤولية بشجاعة أيضا.
حظي غازي القصيبي بالدعم من قيادته ليس لأنه وزير ولا لأنه شاعر ولا لأنه أديب؛ إنما لأنه قوي أمين، وهي معادلة لا يسهل تحققها في كل الأحوال ومع كل الحالات. لا شك أنه يعنينا الشاعر والأديب في حياة القصيبي؛ إلا أنه يعنينا أكثر المفكر الوزير في حياة القصيبي، وإن كان قد مزج بين كل ذلك حتى إنه يتعذر أحيانا رسم الحدود بين كل هذا. يعنينا الوزير المفكر, لأنه حالة خاصة ربما يصعب اكتشافها بسهولة كي يفسح الطريق لها للعمل العام في وقت مبكر. جاء غازي القصيبي للوزارة شابا لم يصل الـ40 بعد، وتنقل بين المسؤوليات، وعايش التحولات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية, وظل في كل حالاته وأحواله مقنعا لخصومه قبل أنصاره، يتمتع بمهارة المفكر ليعيش في عين العاصفة، وينفك من قيود المسؤولية ليواجه أعباءها، ويكتب القصة والقصيدة ليستشهد بهما على الأديب والمفكر والوزير.
لا يمكن أن تمر الحياة الوظيفية للوزير المفكر دون عواصف وخلافات؛ وهي ظاهرة إيجابية للغاية؛ لأنها تضع العمل العام في دائرة الحقيقة التي يعيشها المجتمع. عواصف الخلاف والاختلاف تشير إلى حالة ازدواج الشخصية التي تتعايش معها الخدمة العامة اضطرارا, فتبدو بعض أعمالها خالية من العلاج الناجع لكثير من مواطن المرض التي يلزم علاجها حتى يسير ركب العمل العام خاليا من منغصات الأيديولوجيا التي تفسر كل شيء على هوى رياحها متغيرة الاتجاهات. ولقد عايش غازي القصيبي هذا الأمر في مواقع شتى، وقدره في ذلك أنه وزير مفكر.
الوزير المفكر ليس حالة من المعاملات وإجراءات الصادر والوارد والبدلات والامتيازات؛ إنه مدرسة إدارية تكرس النجاح وتجتذب المبدعين وتعكس مفهوم العميل أولا المواطن أولا. قرأت أجيال حياة غازي القصيبي الإدارية؛ لكنها لم تعايش كل ظروف هذه الحياة ومتغيراتها، وليس المطلوب استنساخ التجارب أو تقليد المواقف والأساليب للسير على خطى الناجحين؛ والقول إن ذلك كفيل بالنجاح وتقلد المناصب. القيم في الأداء العام لا تتغير؛ إنما الوسائل والأدوات التي تبتكرها عقول المبدعين، وتقف على نجاحها ضمائر المخلصين. يرحم الله غازي القصيبي. يرحم الله كل قوي أمين.