التطيّـر

تكلمت في المقالة السابقة عن ''قانون الظن الإيجابي'' للدكتور صلاح الراشد الداعي لجذب الأقدار بما يتوافق مع منهج التفاؤل، واستكمالاً للفائدة سأتكلم هنا عن التطيّر، أو التشاؤم، المراد به: ''توهُّم وتوقُّع حصول المكروه بمرئي أو مسموع'' أو كليهما.
يقول ابن القيم: ''لم يحك الله التطيّر إلا عن أعداء الرُسل كما قالوا لرُسلهم''، إذ تطيّر قوم فرعون بالمؤمنين: ''فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ'' (الأعراف131) وعن قوم صالح: ''قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ'' (النمل47)، كما قال أعداء رسل عيسى عليه السلام: ''إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)'' (يس)، كما بيَّن ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ أن التطيّر نوع من الشرك فقال: ''من ردّته الطّيرة عن حاجة فقد أشرك''(أحمد). فالتطيّر إذاً مُحرَّم.
وكلمة ''تطيّر'' مشتقة من الطير، فأهل الجاهلية كانوا إذا خرج أحدهم لأمر استعمل الطير فإن طار يُمنة تيمَّن به واستمر، وإن طار يُسرة تشاءم به ورجع عن أمره. إذاً كان التطيّر مسيطراً على عقول العرب قبل الإسلام، كذلك نجد التطيّر في سائر الأمم عبر التاريخ وصولاً إلى مجتمعاتنا التي كثيراً ما يتداول أهلها عبارات من مثل: ''أنا اصطبحت بوجه مين''؟ أو ''وجهك بيقطع الخميرة'' (أي الخير) أو ''عيني اليُسرى بترف الله يجيرنا من هذا اليوم'' أو ''أذني بترن إذاً هناك من يذكرني بسوء'' أو ''يدي اليُسرى بتحكني إذاً سأقبض مالاً''، أما حكة اليُمنى فتعني قدوم ضيف والسلام عليه، وآخرون يتطيّرون من نعيق الغُراب أو البومة! يقول أحدهم: ''كانت جدتي تقول لي: إذا رأيت حذاءً مقلوباً فأعده لوضعه المستقيم وإلا سيحدث شجار في المنزل''! كذلك كنّا إذا ضحكنا كثيراً يُقال لنا: ''الله يستر''! وإذا وقعت كأس فتحطمت قيل: ''ذهب الشر''! وغيرها من عبارات التطيّر التي أعتقد أن ألسنتنا تناقلت بعضها، بقصدٍ أو بغير قصد، ونحن جاهلون لعاقبتها.
يقول ابن عثيمين، بتصرف: إن التطيّر ينافي التوحيد، فالمتطيّر قطع توكله على الله واعتمد على غيره، وهو تعلقٌ بأمر لا حقيقة له''! وهذا لا شك يخل بالتوحيد، إذ المؤمن يردّد كل يوم: ''إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ''، فتصبح الطّيرة هنا محرّمة لمنافاتها للتوحيد، إذ ينتج عنها ضعف في الإيمان وضعف في العقل والبصيرة. يقول الماوردي: ''أعلم أنه ليس شيء أضر بالرأي ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطّيرة، ومن ظن أن خوار بقرة أو نعيق غراب يرد القضاء أو يدفع مقدوراً فقد جهل''.
أما علاج التطيّر فيكمن فيما جاء به النقل من قرآن وسُنَة، والابتعاد عن البدع والموروثات الجاهلية، وحُسن التوكل على الله سبحانه، والإيمان بقضائه وقدره، والاستخارة، والاستعاذة بالله والذكر.. إلى غير ذلك. أما كفارة التطيّر، وتجاوزها، فنجدها في قوله ـــ صلى الله عليه وسلم: ''اللَّهُمَّ لا طَيْرَ إلاَّ طَيْرُكَ، ولاَ خَيْرَ إلا خَيْرُكَ، ولاَ رَبَّ غَيْرُكَ، ولاَ حولَ ولا قُوَّةَ إلا بك ).. ولا يقولُهُنّ عبدٌ ثم يمضي إلاَّ لم يضُرَّهُ شيء'' (أحمد)، ويكمن العلاج أيضاً في التفاؤل، قال ـــ صلى الله عليه وسلم: ''لا عَدْوى ولا طِيَرَةً ويُعجبُني الفألُ''، فالفأل مع التوكل تقوية للمسلم في أفعاله، أما الطيرة فمتعارضة هنا! ولا ننسى استحضار الثواب المعَدِّ للذين لا يتطيّرون، فقد أخبر ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ أن سبعين ألفاً من أمّته يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، مُبَيّناً صفتهم بأنهم:'' لا يسترقون ولا يتطيّرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون''.
إذاً من الضرورة بمكان العمل على محق ما رسخ في عقولنا من الطيرة؛ والتنادي إلى إظهار الطرق الربانية لعلاج من ابتلي بها. وأذكر أخيراً مقالة معبّرة لأحد ضحايا التطيّر: خرج أحد الولاة فاستقبله رجل أعور فتطيّر به فحبسه ثم أطلقه، فسأله الأعور: ما كان جرمي الذي حبستني لأجله؟ فقال: تطيّرت بك! فقال: فما أصبت في يومك برؤيتي؟ قال: لم ألقَ إلا خيراً، فقال: أيها الأمير أنا خرجت من منزلي فرأيتك فلقيت في يومي هذا الشر والحبس، وأنت رأيتني فلقيت الخير والسرور فمن أشأمنا؟ والطّيرة بمن كانت؟ فاستحيا منه الوالي ووصله''، والعبرة هنا أن الأعور لم يستند إلى: ''قال الله وقال رسوله'' بل اكتفى بعرض المشهد على العقل فكفاه!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي