مَنْ يحمي المستهلك من الحيتان الجدد؟!
الحوت، ذلك المخلوق الوديع! الذي على الرغم من ضخامته؛ فإنه لا يبادر بالإيذاء ما لم يُعتدَ عليه! عندما أخذت أعداده تتناقص في المحيطات تحرَّكت مراكز البحوث والدراسات العلمية العالمية لحمايته, ووجد مَنْ يدافع عن وجوده، والحيلولة دون انقراضه؛ حتى لا يتحول إلى أثر بعد عين! أمّا عندنا في المملكة فيتوافر نوع آخر، يطلق عليه البعض اسم الحوت، والحوت منه براء، حوت يتزايد ويتكاثر، ويناقض حوت البحار والمحيطات؛ يؤذي ويتضخّم، ويبتلع من مال مواطنيه دون أي مشاعر دينية أو إنسانية، بمبدأ: أنا ومن بعدي الطوفان!
ولا نكاد نذكر الزمن الذي أطلقت فيه صفة الحوت على كبار المستغلين في كل ما يتصل بحياة المواطنين في السلع الاستراتيجية والإيواء .. وحتى في العلاج والدواء, لكنه إسقاط اجتماعي، تزامن مع تضخم بعض التجار، الذين - على ما يبدو - لم تردعهم قوة تُحدُّ من غَلوائهم؛ فاستخدموا قوة المال والكسب غير المشروع لحماية مصالحهم ـــ وإن كان بعضهم قد كشفت عنهم الأزمات؛ فإن كثيرا منهم ما زالوا يمارسون زفراتهم القاتلة, وهم يحسبون أنهم بعيدون عن الأعين!
أذكر ذلك بعدما أثار شجون الجميع التحقيق الصحافي المنشور في صحيفة ''الرياض''، يوم السبت 28 رجب 1431هـ, الذي كشف النقاب عن توجّه عدد من تجار المواد الغذائية، الذين تحالفوا فيما بينهم لتجفيف السوق من المواد الغذائية والاستهلاكية خلال الفترة التي تسبق شهر رمضان المبارك، كما كشف عن شركتين ـــ دون أن يسمّيهما التحقيق ـــ من بين عدة شركات تمكنت من شراء كامل مخزون أحد وكلاء المواد الغذائية الذي يعمل وكيلا لأكثر من منتج غذائي عالمي!
وأكد التحقيق ـــ استنادًا إلى مصادره الخاصة ـــ أن التجار اشتروا المواد الغذائية بأسعار رخيصة، مستغلين فرصة انخفاض قيمة الصرف للعملات العالمية كالدولار واليورو، على الرغم من أن الأسعار للمواد الغذائية في بلد المنشأ لم يطرأ عليها تغير من جهة الارتفاع, ومع ذلك تسير باتجاه معاكس في السوق المحلية! التي ارتفعت موادها الغذائية ''المحتكرة'' خلال الفترة الحالية بنسب تجاوزت 25 في المائة، مع التوقعات بأن تتضاعف هذه النسبة كلما اقترب وقت شهر رمضان والحج! وتوقع المستشار الاقتصادي خالد الحميضان أن يقفز معدل التضخم في السعودية من 5.4 في المائة إلى مستوياته في عام 2008 التي وصلت إلى مستوى 10.25 في المائة، مشيرًا إلى أن التضخم في السابق كان مستوردا, لكنه في الوقت الحالي بسبب سيطرة عدد محدود من الأفراد على السوق! ما يدعو إلى ضرورة ضبط آليات السوق من ''التجارة'' و''الجمارك'' و''حماية المستهلك''!
الحيتان البشرية التي تمارس إيذاء مواطنيها منتشرة في كل أركان بلدنا, وليست مقتصرة على المواد الغذائية, وهذه الحيتان وضعتها الأجهزة المسؤولة تحت الرقابة للحدِّ من توحشها, لكنها مدت قوتها إلى المواطن ترهق حياته وتزيد من أعبائه، وتتفنن في نفض جيوبه!
وهناك أمثلة كثيرة لكل احتكار وكل استغلال .. وراء كل منها حوت صغير أو كبير، وفي نهاية المطاف يُساق لأفواهها أبناء الوطن، الذين يشكون من الغلاء, وهم لا يعلمون أنه من فعل قلة من ذوي الضمائر الضائعة.
يحدث هذا من قلة، غير عابئة بالأمن الوطني الذي توجت به الدولة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـــ حفظه الله ـــ لدى ترؤسه مجلس الوزراء، بالموافقة على ترتيبات طويلة وقصيرة المدى تتعلق بتوفير السلع والمواد التموينية وضبط أسعارها في السوق المحلية, والتأكيد على تطبيق الآليات الصادر بشأنها قرار مجلس الوزراء, ومتابعة تنفيذها, وذلك لتخفيف العبء الذي يتحمله المواطن من جراء الارتفاع الكبير في أسعار المواد التموينية والسلع والمنتجات الزراعية والحيوانية، بعد تطاير الأخبار لإرهاصات الأزمة العالمية، وما تلاه من توجيه كريم بصرف علاوة الغلاء المعروفة.
ويحق لنا أن نتساءل: من يحمي المستهلك من هذه الحيتان الجائعة؟! في تصوري أن حماية المستهلك، يجب أن تتم من خلال إطار نظامي محدد، وهو أمر لا يقل أهمية عن منع الاحتكار في السوق وإطلاق المنافسة, فلا بد من إيجاد نظام حماية للمستهلك، ينظم أوضاع المستهلكين، ويضع ضوابط لحمايتهم؛ ويراعي في الوقت نفسه دعم جمعيات حماية المستهلك وتفعيل دورها أو إنشاء جهاز وطني ينظِّم أسلوب الحماية ويدعم آلياتها ويفصل في منازعاتها ويهتم بوضع مشاريع تفصيلية خاصة بها, وتحديد الملامح الرئيسة بين المنتج والموزع والمستهلك, وتنظيم شؤون الدعاية والإعلان ونظم الطرح والتعاقد, بحيث لا تخل بمصالح المستهلك, ومنح المستهلك حق رد السلع أو استبدالها, إضافة إلى تنظيم اللجوء إلى القضاء للحصول على الحقوق بشكل غير مكلف ومعاقبة المخالفين وتجريم الممارسات التي تضر بأمن وصحة المستهلك وسلامته, وكذا العناية بالمنافسة بين الشركات والتجار والمنتجين، من خلال إرساء مبدأ الشفافية, وعدم ترك المستهلك فريسة لاستغلال البعض, أو الإضرار بالسوق من خلال الممارسات الاحتكارية للسلع ورفع أسعارها؛ فالنظام المقترح من شأنه القضاء على التصرفات الخاطئة، مع التأكيد على أن استقرار السوق هو الهدف من هذا النظام وليس وضع نظام للتسعير.
ويجب أن يدرك المنتجون والتجار والمستهلكون أن لكل مستهلك حقوقًا معترفا بها عالميًا, لكننا في المملكة نتجاهلها, بينما أغلبية دول العالم تعترف بها, حتى أننا نتجاهل مشاركة دول العالم المتحضرة بالاحتفال باليوم العالمي لحماية المستهلك، المحددّ له عالميًا يوم 15 آذار (مارس)، وهو اليوم نفسه الذي أصدر فيه الرئيس الأمريكي جون كيندي إعلان حقوق المستهلك عام 1962.. وأصبح فيما بعد يومًا عالميًا لحماية المستهلك, وحدد له أربعة حقوق، هي: الحق في حصوله على سلعة آمنة وسليمة, وحق معرفته بكل المعلومات الكافية عنها واختبارها واستبدالها, وحقه في أن يسمع رأيه فيها .. وأقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذه الحقوق واعترفت بها . وفي 9 نيسان (أبريل) 1985 أصدرت إعلان المبادئ الأساسية لحماية المستهلك, الذي تضمن مطالبة الدول بوضع إطار لسياسات وتشريعات حماية المستهلك وتشجيع التعاون الدولي في هذا الخصوص، بما يؤكّد أن العميل دائمًا على حق, وينبغي ألا يتعرَّض لاستغلال أو جشع أو احتكار فئة من الصناع أو التجار بما يُطلق عليه (السوق السوداء)!
وإذا كان التحرر الاقتصادي والانفتاح على الأسواق العالمية والتوسع في آليات السوق الحرة, يفرض علينا حماية الصناعة الوطنية وتشجيع الإنتاج المحلي؛ فإنه ينبغي الإسراع في وضع نظام موحد لحماية المستهلك وضمان حقوقه في حصوله على سلعة أو منتج بالجودة والسعر المناسبين دونما غش أو خداع!
قد تكون أجهزة الدولة وحماية المستهلك مهمتها مطاردة الاستغلال بعد حدوثه أو محاولة الحد منه, لكن للمواطنين أنفسهم أدوارا أساسية أخرى مكمِّلة لمجابهة أطماع هذه الحيتان, وكما حدث في كثير من الدول كان للمواطنين الواعين الدور الأساسي في تحطيم أنياب أي حوت مستغل.
عزيزي العميل أو الزبون، لا تجأر بالشكوى بالصوت العالي وتترك الحيتان لتأكلك, فدورك أن يكون لك موقف إيجابي .. قوة اجتماعية ناعمة قادرة على تحطيم أطماع الحيتان الجدد!