قمة العشرين .. هل الأزمة أكبر من أن تنتهي بسرعة؟
أريد لهذه القمة أن تكون على شكل احتفال بانتهاء أكبر أزمة اقتصادية يشهدها العالم في عصره الحديث, فأسواق المال باتت تقترب من مستوياتها ما قبل الأزمة, ومعدلات النمو خرجت من دائرة السالب إلى دائرة الموجب, ومعدلات البطالة بدأت ببطء تتراجع عن مستوياتها المرتفعة, وثقة الناس بالاقتصاد ازدادت وزادت معها طلباتهم وارتفعت مشترياتهم واطمأنت الحكومات بأن دعمها البنوك والشركات أتى أكله, وعادت الحياة من جديد إلى هذه البنوك والشركات. البنوك بدأت في إعادة جزء من الأموال التي اقترضتها من الحكومات مع فوائدها, وبدأت الشركات تحقق ارتفاعا في مبيعاتها, وكل هذه الأمور أعطت الاطمئنان بأن الخروج من الأزمة بات أمرا ملموسا, ما دفع الكثير إلى التصريحات العلنية بأن الأزمة باتت خلفنا, وأن العالم نجح في تجاوزها على الرغم من عظمتها وكبرها. لكن ما سبق القمة من أحداث أدت إلى أن تخيم أجواء من عدم التفاؤل بشأن الوضع الذي يمر به الاقتصاد العالمي, فهناك من جهة شكوك أكدها البنك الدولي بأن الاقتصاد العالمي يخرج ببطء أكثر مما يعتقد من الأزمة الاقتصادية, وعلينا أن ننتظر مدة أطول للخروج بالكامل من هذه الأزمة.
فما حدث في أوروبا واهتزاز ثقة العالم بقوة الاقتصاد الأوروبي والتشكيك في قدرته على الحفاظ على وحدته في ظل ما تتعرض له بعض دول الاتحاد من مشكلات اقتصادية كبيرة جدا, هي التي أدت إلى الحديث عن حقيقة انتهاء الأزمة, فالأزمة اشتعلت في بدايتها بسبب تعثر البنوك والشركات نتيجة دخولها ومخاطرتها في استثمارات عالية الخطورة, ما دفع بالدول إلى حشد كل ما تملك من أموال أضيفت إليها قروض جديدة لإنقاذ هذه البنوك, ومن ثم امتدت النيران إلى الدول نفسها التي هي الأخرى أثقلت نفسها بقروض لتمويل نفقات غير إنمائية, وعند الأزمة انكشفت هذه الدول ووجدت نفسها غير قادرة على الوفاء بديونها, ما استدعى من دول الاتحاد الأوروبي, وبمساعدة الصندوق الدولي ودول أخرى من خارج الاتحاد مثل اليابان إنشاء صندوق مالي بمبلغ ألف مليار دولار لدعم الاقتصاد اليوناني الذي أوشك على الإفلاس, وكذلك الاستعداد للتدخل لمساندة الدول الأوروبية التي قد تتعرض لما تعرضت له اليونان من مشكلات مالية مثل إسبانيا وأيرلندا والبرتغال. وما زاد في قلق العالم بشأن الأزمة الأوروبية تردد الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي, وبالأخص ألمانيا في الإسراع إلى إنقاذ اليونان قبل أن تنهار العملة الأوروبية وتنفك عرى الاتحاد الأوروبي وتنتقل تداعيات الأزمة عبر المحيط الأطلسي ويغرق الاقتصاد الأمريكي, وهو أكبر اقتصاد عالمي في الأزمة من جديد, ما يقوض فعلا فرص خروج العالم من أزمته الاقتصادية. وإن نجحت أوروبا في الاتفاق فيما بينها على اتخاذ الإجراءات المطلوبة لمعالجة الأزمة, إلا أن أجواء عدم الثقة ما زالت مخيمة على العالم خوفا من أن تتكرر أزمة اليونان في أكثر من دولة أوروبية, وبالتالي يصعب على أوروبا, أو في الحقيقة على ألمانيا وفرنسا, أن تمارس مهمة إنقاذ أوروبا في ظل عدم اقتناع شعوبها بمثل هذا الدور.
والأمر الآخر الذي أفقد القمة فرصة الاحتفال بانتهاء الأزمة الاقتصادية هو أن دولا كبيرة ومهمة في مجموعة الثماني الأغنى في العالم هي الأخرى تعيش في دوامة أزمة اقتصادية طاحنة, فبريطانيا بقيادة حكومة المحافظين كشفت لشعبها أن البلد مقدم على أوقات صعبة جدا, لأن تركة الحكومة السابقة في حاجة إلى سنوات ومعالجات قاسية للتخلص من آثارها, فبريطانيا ستكون مشغولة بنفسها ومنغمسة في حل مشكلاتها الاقتصادية, فهي ستخفض كثيرا من النفقات في ميزانيتها الجديدة, وستكون هناك ضرائب جديدة, والخوف من أن تكون هذه المعالجات هي غير ما يحتاج إليها الاقتصاد لمواصلة سيره في الخروج من الأزمة. وبريطانيا ليست وحدها, فأمريكا, ومن خلال ما يظهر من مؤشرات اقتصادية, اقتصادها ما زال متذبذبا وغير قادر على أن يكون له سير تصاعدي مستمر ومستقر. أرقام البطالة ما زالت تراوح مكانها, وهي في حدود 10 في المائة, فهناك خوف حقيقي من أن يكون هناك تحسن اقتصادي, لكن من دون إنتاج فرص عمل جديدة, وحال كهذا يبقي الاقتصاد الأمريكي ضعيفا. والأمل في عودة النشاط والنمو لقطاع البناء والمساكن ما زال هو الآخر غير مطمئن, ومن غير عودة النمو والنشاط إلى هذا القطاع المهم لن يكون هناك انتعاش اقتصادي حقيقي. كل هذا تضاف إليه ما على أمريكا اليوم من ديون كبيرة تجاوزت عشرة آلاف مليار دولار, وخدمة هذا الدين الكبير حتى مع دولة مثل أمريكا وباقتصادها العملاق إلا أنه سيحد من قدرتها على النمو الاقتصادي في المستقبل. هناك خوف حقيقي من أن تكون أمريكا غير قادرة على أن تنمو اقتصاديا, وأن تنتج من النمو ما يمكنها من تسديد هذا الحجم الهائل من القروض. ولا خروج حقيقيا من الأزمة الاقتصادية العالمية من دون الاقتصاد الأمريكي.
بقي هناك التحدي الحقيقي الذي واجهته القمة, القمة الأولى, وهي قمة الثماني والقمة الثانية, وهي قمة العشرين, وهو الاختلاف الذي ظهر على السطح بين أمريكا وأوروبا بشأن الإجراءات التي تتخذها دول أوروبا في التعامل مع أزمتها الاقتصادية. دول أوروبا, وبالأخص ألمانيا, باتت مقتنعة بأن عليها الترشيد في نفقاتها, وهذا الترشيد, وإن كان سيضر بفرص الخروج من الأزمة بسرعة, إلا أن هذه الإجراءات ضرورية لمعالجة الأزمة على المدى الطويل. أما أمريكا فهي غير مقتنعة بهذا الطرح, وترى تبني سياسة مزيد من الإنفاق وضخ مزيد من الأموال في الاقتصاد المحلي أفضل الحلول من وجهة نظرها للخروج من الأزمة, فأمريكا تشعر بقلق حيال إجراءات التقشف التي تقوم بها دول أوروبا وتعدها ضارة بالاقتصاد العالمي, وأن أمريكا ستتأثر سلبا بسببها. الرئيس أوباما أعلن مخاوفه من هذه الإجراءات ودعا إلى مراجعتها والتخلي عنها, لكن أوروبا تصر على التمسك بها ووقفت خلف ألمانيا ودعمت موقفها وأعلنت أنها ماضية في إجراءاتها الضرورية للحد من النفقات, لأنها لا تجد أمامها من خيار منطقي غير هذا الخيار. وحاول الزعماء في القمة الخروج باتفاق حول هذا الموضوع, لكن يبدو أن الاختلاف أكبر من أن يستوعبه اجتماع حتى ولو كان على مستوى القمة, وبالتالي انتهت القمة إلى ترك الخيار للدول نفسها لتحديد ما تراه مناسبا, وهذا لا يعطي اطمئنانا عن مستقبل الاقتصاد العالمي.
أخيرا, عند بداية الأزمة كان هناك اقتناع قوي بضرورة معالجة جذور الأزمة وعدم الاكتفاء بحلول مؤقتة, فأساس هذه الأزمة كان ماليا, فالبنوك والمؤسسات المالية دفعت الحكومات إلى اعتماد سياسات مالية تتيح لها العمل بحرية شبه مطلقة, ما خلق اقتصادا ينمو بسرعة ومن غير وجود أسس وقواعد قادرة على أن تحفظ لهذا النمو الاستمرارية ومنعه من التراجع بحدة, وهذا ما حدث فعلا. الحديث عند حدوث الأزمة هو الحاجة إلى وجود دور حكومي رقابي قوي وتأسيس صناديق مالية تمولها البنوك لإنقاذ نفسها بنفسها في وقت الأزمات. ونجح الرئيس أوباما في سن قوانين محلية للحد من حركة البنوك والشركات, وهناك محاولات مماثلة في أوروبا وفي دول العالم الأخرى, لكن هناك خشية أن البنوك باتت من القوة ما تجعلها قادرة على استيعاب هذه التشريعات الجديدة والعودة مرة أخرى إلى ممارسة أعمالها في غياب الرقابة الحكومية, ما يبقي الفرص لحدوث أزمة اقتصادية جديدة في العالم.
لكن على الرغم من أجواء الشك والتشاؤم التي خيمت على المؤتمر إلا أن قمة العشرين أعطت العالم تأكيدا آخر بأنها باتت المرجعية الدولية للتعامل مع الأزمة الحالية والأزمات القادمة. اجتماع 20 دولة, يمثل مجموع اقتصادها ما يعادل 80 في المائة من الاقتصاد العالمي, في حد ذاته يعطي اطمئنانا للعالم, وإن كانت هناك اختلافات, بأن الدول الكبيرة لم تعد وحدها تقرر مصير العالم, فالعالم يجب أن يعمل معا لإدارة اقتصاد العالم وأن يعمل معا للخروج بالاقتصاد العالمي من أزمته الحالية وبسرعة.