معوقات قضاء التأمين بالمملكة (2 - 4)
ذكرتُ في المقالة السابقة أن قضاء التأمين يخضع في جزء كبير منه إلى لجان متخصصة، وأنه لا توجد قواعد نظامية موضوعية تستند إليها اللجان في عملها الخاص بحسم نزاعات التأمين. وإزاء هذا النقص فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما الذي فعلته هذه اللجان في ظل غياب مثل هذه النصوص؟ والإجابة التي تبدو أكثر منطقية في هذا المجال هي أن الحل هو في الاجتهاد خارج النصوص، وذلك لسبب بسيط وهو أن القاضي لا يحق له أن يمتنع عن حسم النزاع بحجة عدم وجود نص نظامي يحكم الموضوع. وإذا نظرنا إلى القضاء العام في المملكة فإن الاجتهاد كثيراً ما يتم اللجوء إليه لحسم نزاع ما، وذلك بسبب غياب التقنين في كثير من المسائل التي ينظرها هذا القضاء. أما بالنسبة لقضاء اللجان فإن فكرة الاجتهاد خارج النصوص لا تنسجم مع فكرة أن صدور النظام كان بسبب الحاجة إلى وجود تقنين يخص الموضوع الذي صدر من أجله النظام.
ويُزاد على ذلك أن قضاء التأمين هو قضاء له خصوصية كبيرة، وذلك بسبب الطبيعة الفنية للتأمين والتي أثرت في كثير من المبادئ القانونية، وأدت إلى أن تختص صناعة التأمين بأحكام ومبادئ قانونية قد لا ينسجم كثير منها مع الأحكام والمبادئ والقواعد القانونية العامة التي يدرسها المتخصصون في القانون أو المشتغلين به. ولذلك فإن الاجتهاد في ظل وجود مثل هذه المسائل الفنية والقانونية لا يكون مرحباً به. كما أن هناك جانباً مهماً له علاقة كذلك بالقواعد الفنية التي تحكم نشاط التأمين ومتعلق بمدى شمولية الفتاوى والقرارات ذات الصبغة الشرعية لكل الجوانب الفنية للتأمين، وكذلك إدراكها لآلية عمل التأمين في الداخل والخارج. ولذلك فكل من يُعنى بالتأمين يجب أن يكون مدركاً لهذه الجوانب، والمسألة ستكون بالطبع أكثر إلحاحاً بالنسبة للجان التي تعمل في مجال قضاء التأمين، ذلك أن القضاء التأميني يُعد ركيزة أساسية وشريكاً فاعلاً في تطوير صناعة التأمين في المملكة.
وفي ظل غياب الأحكام النظامية الموضوعية، فإن الوثائق التأمينية التي تحدد العلاقة القانونية بين شركات التأمين وعملائها أصبحت هي المرجعية البديلة والمثالية التي تستند إليها اللجان في أحكامها، ولكن وللأسف فإن هذه الوثائق لم يكن أغلبها يعبر عن حقيقة العلاقة بين شركة التأمين وعميلها؛ إما لأنها مكتوبة بلغة أجنبية لم يستطع العميل قراءتها أو أنها مصاغة بعبارات غير دقيقة، أو أن بعضها يخالف في مضمونه القواعد القانونية والأعراف التأمينية المستقر عليها في صناعة التأمين أو أنه لا يحتكم على نظام معمول به في المملكة، ولذلك فإن أغلبها لا يمثل مرجعية موضوعية يمكن الاستناد إليها خصوصاً وأن كثيرا من مفرداتها قد صيغت بما يحقق مصالح شركة التأمين ويحميها في حالة حصول نزاع قانوني متعلق بالتزاماتها التأمينية. ولقد حلّت الوثائق الموحدة التي اعتمدتها الجهات الرقابية بعضاً من هذه الإشكالات التي تعتري وثائق التأمين؛ كالوثيقة الموحدة للضمان الصحي والوثيقة الموحدة للتأمين على المركبات ضد المسؤولية، إلا أن كثيراً من مفردات هذه الوثائق ما زال يثير إشكالات قانونية معتبرة ناتجة عن سوء فهم هذه المفردات أو عدم دقتها.
إن عدم وجود قيود أو نصوص موضوعية تحكم التأمين، وكذلك الإحساس بحرية الاجتهاد من قبل لجان فض منازعات التأمين في القرارات التي تصدرها، قد يؤدي في نهاية المطاف إلى انجراف هذه اللجان في قراراتها بعيدا عن أصول التأمين والقواعد والأعراف التي تحكمه.
ويجدر التنبيه كذلك إلى عدم جنوح هذه اللجان لإصدار قراراتها تحت مبرر أن المحكوم عليه هو شركة تأمين وأنه الطرف الأقوى والقادر على الدفع، بل يجب أن تكون قرارات اللجان منطقية وهادفة إلى حماية الأطراف جميعاً، وذلك حتى يتم النهوض بصناعة التأمين لدينا بشكل مهني سليم. للحديث بقية.