تعثر المشاريع .. تحذير من «المفهوم المغلوط» وهزال الخدمات الاستشارية
تحولت حلقات «الاقتصادية» التي نشرتها على مدى ستة أيام من خلال ملف الشهر, الذي شارك فيه نخبة من المهندسين والمختصين عن تعثر المشاريع في البلاد إلى واقع ملموس، بعد أن تفاعلت هيئة المهندسين السعوديين مع ذلك وعقدت ندوة متخصصة تطرقت لهذا الأمر، وناقشت كثيرا مما ورد في الحلقات باستفاضة.
وقدم الدكتور سليمان بن علي العريني الخبير في التخطيط الاستراتيجي وتخطيط وإدارة المشاريع الرئيس التنفيذي لشركة الإبداع للاستشارات محاضرة بعنوان «التخطيط الاستراتيجي للمشاريع» بحضور عدد كبير من المهندسين والمختصين من القطاعات الحكومية أو المكاتب الاستشارية ومؤسسات وشركات القطاع الخاص المعنية بتنفيذ المشاريع الإنشائية.
وطرحت «الاقتصادية» القضية على مدى أسبوع كامل الشهر الماضي, بدأت الحلقات بالتطرق إلى طريقة طرح المشاريع, حيث اتفق المشاركون على أن فلسفة طرح المشاريع الحكومية التقليدية القديمة أحد أسباب تعثر المشاريع وتأخرها في التنفيذ.
وفي الحلقة الثانية تطرقت إلى غياب التخطيط الشامل للمشاريع، قبل أن يناقش المختصون أهمية إنشاء هيئة عامة للمشاريع، وتاليا ناقشوا آلية عمل الهيئة المقترحة والإيجابيات التي ستترتب عليها، قبل أن تستعرض آراء قراء «الاقتصادية الإلكترونية» الذين تفاعلوا مع القضية بحلقاتها كافة.
اليوم نستعرض ندوة هيئة المهندسين التي قدمها الدكتور سليمان العريني, التي تأتي ضمن نشاطات شعبة إدارة المشاريع وتفاعلا مع ملف «الاقتصادية» .. إلى التفاصيل:
في البداية, تطرق الدكتور العريني إلى أهمية فهم العلاقة بين التخطيط الاستراتيجي وإدارة المشاريع وتنفيذها بأنواعها، وليس فقط مشاريع البنية التحتية، لافتا إلى أن الوضع الراهن في طريقة تخطيط المشاريع وتنفيذها في المملكة غير مقبول لا من الناحية العملية ولا من الناحية الاقتصادية من حيث وجود هدر كبير في الأموال يصل إلى أكثر من 100 مليار ريال سنوياً نتيجة غياب التخطيط الاستراتيجي.
وفسر العريني هذا بالقول إنه: «من الناحية العملية لا توجد خطة استراتيجية شاملة ومتكاملة يعتمد عليها كمرجع وأساس في تخطيط وتنفيذ المشاريع بأنواعها، معتبرا أن خطط التنمية التي تعدها وزارة الاقتصاد والتخطيط، «التي بلغت حتى الآن تسع خطط وتغطي 45 سنة، هي في الواقع لا علاقة لها أبدا بتحديد ماهية المشاريع، وأولويات المشاريع، وميزانيات المشاريع، وعلاقة المشاريع».
وشدد على أن المشاريع يتم تحديدها، ووضع ميزانيتها من قبل وزارة المالية، وذلك حسب التفاوض بين كل وزارة ووزارة المالية، ولا يوجد في هذا التفاوض أي دور لوزارة الاقتصاد والتخطيط.
وفي إشارة سريعة، أشار المحاضر إلى ضرورة التفريق بين التخطيط الاستراتيجي وتخطيط المشاريع, فالتخطيط الاستراتيجي ـ كما يقول العريني - يسبق تحديد المشاريع، وهو الذي يحدد المشاريع وحجمها، وأولوياتها، وعلاقاتها، بينما تخطيط المشاريع يتم داخل كل مشروع، حيث يمر كل مشروع بعدة مراحل منها، بدء المشروع، تخطيط المشروع، تنفيذ المشروع، جودة المشروع, وتسلم المشروع.
ويلاحظ، إلى جانب غياب التخطيط الاستراتيجي، غياب كبير لمراحل تخطيط المشاريع والتأكد من جودة وأداء المشاريع، على الرغم من أن هذه المراحل تمثل أكثر من 80 في المائة من حجم أي مشروع.
كما تعرض الدكتور العريني إلى حجم الخسائر المالية والبشرية والمعلوماتية الكبير من خلال «التعامل مع مشاريع البنية التحتية مثل المياه والصرف الصحي والتصريف الصحي والاتصالات وغيرها كجزر منعزلة».
وقال: كل حي أو شارع يتعرض لهجوم عشوائي بين حين وآخر من قبل جهات حكومية خدمية مختلفة، فاليوم يتم حفر شارع لتنفيذ أو صيانة شبكة مياه وبعد فترة يتم الحفر لتنفيذ شبكة صرف صحي وبعدها شبكة اتصالات ... إلخ، مكبدة خزانة الدولة خسارة مالية مباشرة تصل إلى أكثر من 100 مليار ريال سنوياً، إضافة إلى خسائر مالية وبشرية وزمنية غير مباشرة.
وبين العريني أنه «من خلال العمل على مفهوم التخطيط الاستراتيجي، يمكن تطوير خطة مشاريع شاملة لجميع المشاريع التي تحتاج إليها الدولة خلال فترة زمنية معينة يفضل أن تكون طويلة الأجل».
وتم في الندوة، استعراض عدد من التجارب الدولية الناجحة في تخطيط المشاريع وتنفيذها سواءً على مستوى المنطقة أو على مستوى العالم.
#2#
وقال العريني «يمكن للمملكة أن تستفيد بشكل كبير من هذه التجارب».
وخلال المحاضرة ناقش الحضور مفهوم المشروع، وتم الاتفاق على أن هناك مفهوما مغلوطا وخطيرا جداً لدى بعض المهندسين بأن مصطلح «مشروع» ينطبق فقط على مشاريع البنية التحتية من مبان وطرق وشبكات وغيرها، ولا علاقة له بمشاريع غير إنشائية مثل تطوير الخدمات الصحية والتعليمية.
وهنا أكد الدكتور العريني أنه لا يمكن تنفيذ مشروع بنية تحتية أو الاستفادة منه دون تنفيذ مشاريع غير إنشائية داعمة له، فعلى سبيل المثال هل يمكن تنفيذ معامل تعليمية أو مختبرات دون العمل على تجهيز موارد بشرية متخصصة لإدارة هذه المعامل؟».
وتساءل: كم من مشروع إنشائي لم تتم الاستفادة منه نتيجة عدم توافر العناصر الأخرى اللازمة لتشغيله في الوقت المناسب؟ وكم من مشروع لم يتم تسلمه نتيجة لعدم جاهزية الجهة الحكومية لتشغيله؟
وخلال الندوة، تم عرض عدد من المشاهد منها حادثة تسرب النفط في الولايات المتحدة عام 2010، وتأثير هطول الأمطار الغزيرة على مدينة جدة عام 2009، لتوضيح أن البعض لا يتعلم الدروس رغم تكرر الأحداث والمشكلات، وقال «حادثة جدة لم تكن الأولى وربما لا تكون الأخيرة، طالما أننا لا نتعلم الدرس ولا نصحح الأخطاء.
فكل هذه الأحداث وغيرها، تؤكد غياب التخطيط الاستراتيجي وتفعيله ومتابعته، وتؤكد غياب التعامل مع إدارة المخاطر، وغياب تحمل المسؤولية والمحاسبية».
مشاركون: مطلوب تفعيل التخطيط الاستراتيجي في القطاعات الحكومية
شهدت الندوة عدة مداخلات، وكان لافتا اتفاق المشاركين (استنادا إلى خبراتهم وما يشاهدونه على أرض الواقع ـ على حد وصف العريني) على عدم وجود تخطيط استراتيجي على المستوى الكلي في المملكة، بالنظر لأن كل جهة حكومية تعمل بشكل مستقل عن الأخرى.
وهنا أشار المهندس حمد اللحيدان عضو الهيئة السعودية للمهندسين ورئيس شعبة المشاريع في الهيئة، إلى أن هناك معاناة في ظل غياب التخطيط الشامل للمشاريع، حيث يتم البدء بمشروع لكن ليس بشكل كامل، ما يحد من الاستفادة المثلى منه.
من جانبه, قال الدكتور محمود مدني، عضو الهيئة السعودية للمهندسين, إن من أهم ما يؤثر في مستوى وجودة المشاريع ليس فقط ضعف إدارة المشاريع, لكن وهو الأهم سوء التخطيط وعدم وجود خطط مشاريعية شاملة.
لكن المستشار لواء متقاعد إبراهيم ناظر قال إن مفهوم التخطيط الاستراتيجي واستخداماته بدأ في بداية القرن الـ 20، خصوصاً من بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة، أما على مستوى المملكة الدولة، فما زالت قطاعاتها غير مفعل، ويحتاج إلى عمل كبير من قبل القطاعات الحكومية للاستفادة من هذا العلم.
قبل أن يعلق المهندس عمر الفايز، عضو شعبة المشاريع في الهيئة السعودية للمهندسين، على هذه الندوة بالقول بالتأكيد على أهمية موضوع المحاضرة، وذكر أن المحاضرة كانت مبهرة وقدمت لهم معلومات كانوا يتشوقون إليها، إضافة إلى أن المحاضرة قدمت بطريقة المساهمة في النقاش لا الطرح المباشر.
مستدلا على أهمية المحاضرة بما استقطبته من عدد الحضور.
وقال قد يكون من المناسب أيضاً ربط موضوع المحاضرة, وهو التخطيط الاستراتيجي, بما يتم حالياً، وبشكل أكثر تحديداً علاقته بالمشاريع العملاقة القائمة أو المعلن عن نية قيامها، كذلك تقييم لخطة المشاريع هذه, خصوصاً مشاريع البنية التحتية (مثل مشاريع إنتاج ونقل الطاقة ومشاريع الصرف الصحي).
وشدد على أن هناك عددا من المشاريع ظهرت خلال السنوات الخمس الماضية في المملكة, وهي مشاريع التطوير المستقل في مجالي الطاقة والمياه، وكذلك مشاريع المدن الاقتصادية، التي ينبغي التعرض لها في هذا السياق, مبينا أن التخطيط الاستراتيجي أول خطوات النجاح وافتقاد هذه الخطوة يجعل ما يليها خطوات متخبطة في طريق مظلم.
من جانبها, أشارت المستشارة عزيزة الخطيب إلى أن من شأن مثل هذه اللقاءات أن تسهم في تطوير الكوادر العاملة على المشاريع بمختلف مستوياتهم الهندسية والإدارية بما ينعكس على نتائج المشاريع بمزيد من الإنتاجية من ناحية، وربط المشروع بمظلة أشمل يتكامل فيها عديد من المشاريع من ناحية أخرى.
وقالت عزيزة الخطيب إن التعثر الذي نراه في عديد من المشاريع الحكومية والخاصة هو نتيجة لضعف وهزال الخطوة الأولى الرئيسية المتعلق بالخدمات الاستشارية المقدمة في بداية المشاريع سواء دراسات الجدوى أو الدراسات بأنواعها, خصوصاً الهندسية والتخطيط بأنواعها.
وبينت «هذا يعيدنا إلى نقطة الأساس أن الخدمات الاستشارية تعد رأس الأعمال المفكر، ولا بد أن يأتي الأمر من العقل قبل ردة فعل الجسم وإلا اعتبرت كل حركة (مشروع) حركة لا إرادية لا توصل الإنسان إلى هدف».
المهندس عبد الرحمن الهزاع، أكد أن المحاضرة نبهته إلى ضرورة وجود النظرة الشاملة للمشاريع، حيث إن الدراسة في كليات الهندسة والدورات الهندسية تركز على إدارة المشروع الإنشائي فقط, الذي فهمت أنه يعتبر جزءا من التخطيط الاستراتيجي للمشاريع.
وقال «أتمنى أن نتعرف أكثر على طريقة تطبيق التخطيط الاستراتيجي للمشاريع، التي يمكن استعراضها في ندوات مستقبلية.
في حين أضاف المهندس تركي التركي، عضو شعبة المشاريع في الهيئة السعودية للمهندسين، أهمية توعية قطاعات الدولة بأهمية ودور التخطيط الاستراتيجي، الأمر الذي سينعكس على رفع مستوى المشاريع وجودتها.
## مؤتمر دولي لتخطيط المشاريع
تفاعلا مع القضية أعلنت الهيئة السعودية للمهندسين عزمها عقد مؤتمر دولي حول التخطيط وإدارة المشاريع بداية العام المقبل 2011، وهو ما سيفتح آفاقا أوسع لتنفيذ المشاريع بكفاءة عالية في ظل إعلان الدولة عزمها إنفاق أكثر من 400 مليار دولار على مشاريع البنية التحتية في غضون السنوات الخمس المقبلة.
ومن المعلوم أن الهيئة السعودية للمهندسين ممثلة في شعبة إدارة المشاريع لها مساهمات جدية في مختلف القضايا التي تمس القطاع الهندسي والتنموي من خلال لقاءاتها مع المسؤولين في الدولة ومطالباتها بوضع منهجية خاصة لإدارة المشاريع.
وتلعب الهيئة السعودية للمهندسين دوراً كبيراً في المساهمة في إدارة المشاريع من خلال التثقيف العام لأعضاء الهيئة وغيرهم, وذلك من خلال الندوات والمحاضرات التي تنظمها بدعوات مفتوحة للجميع, إضافة إلى أنها أنجزت مؤتمرين خلال الأعوام الماضية.