الخدمات الاستشارية .. من المسؤول؟

تقوم وزارة التجارة بالإشراف والترخيص للاستشاريين, وتشاركها في ذلك وزارة العدل والهيئات المحلية الأخرى مثل هيئة سوق المال والهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين وهيئة المهندسين وهيئة التخصصات الصحية وغيرها, وتبذل هذه الجهات جهودا حثيثة ومشكورة في سبيل تنظيم وإدارة قطاع الأعمال الاستشارية في المملكة، الذي يفترض أن يقوم بتقديم الدعم الاستشاري والفني لقطاعات الأعمال الحكومية والخاصة، مع العمل على توطين المعرفة والخبرة الاستشارية والاستفادة من الخبرات الأجنبية المؤهلة بشكل مدروس ونوعي وقانوني بما يخدم بلدنا الحبيب، لكن ما زال هنا كثير مما يمكن تحقيقه في هذا المجال. ما يلاحظ على قطاع خدمات الاستشارات الإدارية والمالية في المملكة وجود سيطرة كبيرة وشبه كلية من قبل المكاتب الدولية. ويكفي لتأكيد ذلك، الاستدلال بما حصل أخيرا من هجرة جماعية لمجموعة من الموظفين الأجانب الذين يعملون في مكتب دولي خاص بالاستشارات إلى مكتب دولي آخر، وترك مجموعة من الشركاء السعوديين العمل في المكتب الدولي بعد انتقال هؤلاء الأفراد إليه، ما يضع علامات استفهام كبيرة حول أسباب وتوقيت الاستقالة. وعلى الرغم من وجود عقوبات نظامية ومهنية من قبل بعض الجهات الإشرافية، إلا أن عملية الهجرة تمت دون وجود أي اعتراض أو تحقيق من أي جهة، ما يعني حتماً وجود خلل وثغرات في الأنظمة. كما تدل هذه التنقلات أيضاً على عدم وجود تنسيق وتعاون بين الجهات الإشرافية ما يمكن البعض من التحايل وتجاوز العقوبات. كما لنا أيضاً أن نتساءل هنا عن تأثير وتفاعل الجهات الحكومية والخاصة الحساسة والمؤثرة في الاقتصاد السعودي مثل «أرامكو» و»سابك» ومؤسسة النقد والبنوك السعودية وشركات الاتصالات وغيرها من المؤسسات والشركات الوطنية مع ما حدث من تنقلات واستقالات في المكاتب الدولية الاستشارية؟
تمنح الهيئة العامة للاستثمار ترخيص تقديم خدمات استشارية للإدارة العليا، وليس معروفا ما الفرق بين نطاق هذا النوع من الاستشارات والترخيص الممنوح من قبل وزارة التجارة الخاص بخدمات الاستشارات الإدارية، مع العلم أن هناك فرقا شاسعا للشكل القانوني بين هذين النوعين، وأكثر ما يخيفنا هنا هو استغلال الترخيص الممنوح من الهيئة العامة للاستثمار، الذي يقدم للشركات ذات المسؤولية المحدودة، لتغطية المخاطر المتعلقة بالترخيص الممنوح من وزارة التجارة، الذي لا يصدر إلا لشركات مهنية تضامنية ويخضع لنظام المهن الحرة ويتطلب حدا أدنى من الملكية الوطنية, الذي لا يقل عن 25 في المائة. وعلى الرغم من انخفاض النسبة المخصصة للشريك الوطني، إلا أنها لا تقارن ألبتة بالنسبة التي يحصل عليها الأجنبي من خلال حصوله على ترخيص خدمات استشارية من الهيئة العامة للاستثمار، وهي 100 في المائة، أيضاً مع انعدام شرط وجود شريك وطني.
وإلى جانب خاصية الملكية الكاملة للأجانب لهذا النوع من الأعمال، فنحن حتى الآن لا نستطيع تفهم ماهية علاقة الهيئة العامة للاستثمار بمنح تراخيص الخدمات الاستشارية، فطبيعة هذه الخدمات لا يترتب عليها جلب رساميل أو نقل معرفة حقيقي، بل إن ما نخافه (وهو ما يلاحظ حالياً) أن تعمل هذه المكاتب من خلال وحدات عمل من بعد Satellite Offices، تقوم فقط بترتيب التعاقدات وغيرها، يتبعها ترتيب تقديم الخدمات من خلال مبدأ استشارات «نهاية الأسبوع» لفرق المستشارين الذي يقطنون في بعض الدول الخليجية المجاورة. مستشارو «نهاية الأسبوع» في الغالب هم أشخاص لا يطيقون العيش في المملكة فتتاح لهم فرصة الإقامة في إحدى الدول الخليجية والقدوم للعمل في المملكة خلال أيام الأسبوع ومن ثم ترك المملكة وأجوائها وتقاليدها خلال عطلة نهاية الأسبوع, وبالطبع فإن تكلفة توفير مقري إقامة لهؤلاء, إضافة إلى تكاليف الانتقال وغيرها تحمل على المشاريع الاستشارية التي في النهاية تدفعها الجهات التي تتعامل معهم في المملكة، وأغلبيتها حكومية. ويكفي أن تذهب لقاعات رجال الأعمال في مطارات الرياض وجدة والدمام في مساء كل أربعاء لترى العجب العجاب, جماعات من الخواجات في هجرة معاكسة, يضاف إليهم بعض صغار السن من (المستشارين) من بعض الدول العربية حديثي التخرج والحجى, إضافة إلى بعض الصبايا (المستشارات).
لنكن صادقين مع وطننا وأنفسنا، فأغلبية من يقبل العمل في المملكة من الأجانب، من جميع الجنسيات الغربية وغيرها، هم ممن لم يجدوا فرص عمل في بلادهم ويأتون إلى بلدنا فتفتح لهم الأبواب ويحظون بمعاملة خاصة واستثنائية على جميع المستويات المالية وغيرها، ويتعلمون ويتدربون على أفضل الممارسات والتقنيات التي استثمرت فيها الدولة المليارات من الريالات، وغيرها من الفرص والدعم والتسهيلات، فرص لا يمكن أن يحلموا بها في بلادهم، والأدهى من ذلك كله أن يحرم من هذه الفرص أبناء الوطن وبناته المؤهلون. ويكفي أن نعرف وندرك الحقيقة أنه لا يمكن لخبير واستشاري حقيقي, خصوصاً من الدول الغربية, أن يقبل أن يعيش بعيداً عن بيئته المعتادة حيث يجد مجالاً رحباً لصقل مواهبه وزيادة معرفته وخبراته. علاوة على ذلك، فبعض ممن يعملون في قطاع الاستشارات من الأجانب بمن فيهم الإخوة العرب تتجاوز دخولهم السنوية مليون دولار، وهو أضعاف الراتب السنوي للرئيس الأمريكي أوباما! وبالمناسبة، فنحن هنا لسنا ضد الاستعانة بالكوادر والخبرات الأجنبية، لكن يجب أن تكون هذه الاستعانة ضمن ضوابط وشروط تضمن لبلدنا الحصول على الحد الأدنى من الجودة والمعرفة، وبالتكلفة المعقولة والمناسبة، وتضمن للمواطنين السعوديين فرص عمل في القطاع الاستشاري.
كما يلاحظ أن عدد الكوادر السعودية في المكاتب الاستشارية الدولية في المملكة في مستوى مدير وأعلى (ممن تتعدى خبرته خمس سنوات) لا يتعدون أصابع اليدين أو اليد الواحدة, وربما لا يوجدون أصلاً، وفي ظل هذه المعطيات .. هل هناك تفعيل لسعودة حقيقية في مشاريع الاستشارات؟ وكيف تتعامل جهات حكومية وخاصة كبيرة مثل «أرامكو» و»سابك» ومؤسسة النقد والبنوك السعودية وغيرها من المؤسسات الوطنية مع المكاتب الدولية الاستشارية في ظل غياب الشريك السعودي، وكذلك في ظل التغييرات والاستقالات التي تحدث في هذه المكاتب؟ وهل تحرص الجهات المانحة لهذه المشاريع، سواء الحكومية منها أو الخاصة، على وجود نسبة من المواطنين السعوديين في هذه المشاريع، أم أن السعودة هي فقط للوظائف الإدارية والخدمية؟ إن خريجي برنامج الملك عبد الله بن عبد العزيز للابتعاث الخارجي يشكلون مجالاً خصباً لاستثمارهم وتشغيلهم في مجال الخدمات الاستشارية بجميع أنواعها، المالية وغيرها. فخلال الأيام القليلة الماضية، تم الاحتفال بتخريج أكثر من ثلاثة آلاف طالب وطالبة من برنامج الملك عبد الله بن عبد العزيز للابتعاث الخارجي، فهل سيتاح لهم العمل في هذه المكاتب وعلى وظائف مهنية، وليست خدمية، تتيح لهم استخدام قدراتهم وتنمية خبراتهم ليتبوأوا مناصب قيادية في هذه المكاتب، أم يرفض المديرون والشركاء الأجانب الاستعانة بهم، خصوصاً أن المكتب الدولي الأجنبي يمكن أن يملك الآن نسبة 100 في المائة؟
في ظل غياب خطة استراتيجية أو سياسة وطنية لتوطين الخبرات ونقلها لأبناء الوطن وبناته في مجال الاستشارات الإدارية والمالية وغيرها، فإننا لا نجد حرصاً من الشركات المحلية, بل حتى الجهات الحكومية على نقل المعرفة للشباب السعودي، وفي كثير من الحالات لا تحرص هذه الجهات حتى على نقل الخبرة إلى موظيفها، وهناك شواهد عملية في عدد من المشاريع الاستشارية الكبيرة تؤكد وتدعم هذا. فهناك، على سبيل المثال، شركة وطنية مساهمة تمتلك فيها الدولة أكثر من 50 في المائة وتنفق مئات الملايين سنوياً على الخدمات الاستشارية، يرفض أحد المسؤولين لديها عرضا مقدما من أحد الاستشاريين السعوديين لتضمين مجموعة من الشباب السعوديين حديثي التخرج ضمن قائمة الفريق الاستشاري المرشح للعمل مع الشركة في أحد مشاريعها، محتجاً ومعترضاً بأنه «ليس من أهداف شركتنا التدريب»، وهناك إحدى الجهات الحكومية التي قبلت بتوظيف أجانب عاطلين عن العمل كمستشارين وخبراء للعمل في مشاريع استراتيجية وطنية، وبمقابل رواتب فلكية. أما نسبة نقل المعرفة وتوطينها، فهي تكاد تكون منعدمة، فعلى سبيل المثال، قامت إحدى الشركات الوطنية المساهمة بإنفاق أكثر من 260 مليون ريال مقابل خدمات استشارية لسنة واحدة، لم يخصص شيء من هذه العقود لأغراض نقل المعرفة وتوطينها.
بشكل عام، لا يوجد تنظيم رسمي واحترافي لمهنة الأعمال الاستشارية في المملكة، فهي مشتتة بين وزارة التجارة والهيئات الأخرى، ولاحقاً أصبحت المهنة أكثر تشتتاً وغموضاً بدخول الهيئة العامة للاستثمار في مجال إصدار تراخيص الأعمال الاستشارية. أما ما يخص الناحية التعاقدية بين القطاعات الحكومية والمكاتب الاستشارية، فلا يوجد نظام أو نموذج خاص للعقود الاستشارية في نظام المشتريات الحكومية، فوجود مثل هذا النموذج يضمن الحصول على الحد الأدنى من الخدمات الاستشارية بما في ذلك مشاركة العنصر الوطني ونقل الخبرة والمعرفة. كما أن وجود فراغات تنظيمية، تسمح للجهات الحكومية بالتعاقد مع شركات ومكاتب دولية خارجية، دون وجود شركاء وطنيين، يسهم في تقليل فرص نقل وتوطين المعرفة.
للارتقاء بالوطن وخدمته على أكمل الأوجه، فإن قطاع العمل الاستشاري في المملكة يحتاج إلى تطوير وتنظيم، يبدأ من وزارة التجارة من خلال تطوير إدارة المهن الحرة ودعمها مع تطوير أنظمة ولوائح تحكم العمل الاستشاري، وتحدد مع الهيئات الأخرى المتخصصة، الحد الأدنى للمؤهلات والكفاءات لجميع الأفراد العاملين في قطاع الاستشارات، مع إلزام كل من يعمل في شركات ومكاتب الاستشارات بالحصول على رخصة استشاري، ووضع حد أدنى لنسبة الشركاء السعوديين في المكاتب الدولية لا تقل عن 60 في المائة، وعدم السماح بالتعاقد مع مكاتب استشارية خارجية ما لم يكن لها تمثيل ومشاركة وطنية بالنسبة نفسها (60 في المائة)، وتحديد وحصر منح تراخيص الاستشارات بجميع أنواعها في جهة واحدة، منعاً للتكرار ولزيادة الكفاءة ولمنع إيجاد ثغرات تنظيمية ربما يستغلها البعض لتحقيق مصالح شخصية على حساب الوطن.
وللحديث بقية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي