رُخص وتنفيذ البرامج في القطاعات الحكومية بين الواقع والمأمول
من خلال الاستفادة المثلى من مبدأ اقتصاديات الحجم، قام عدد من الدول وفي جميع أنحاء العالم مثل الهند ومصر والأردن وغيرها, بعقد اتفاقيات استراتيجية مع شركات تقنية الحاسب الآلي مثل ''مايكروسوفت''، للحصول على رخص استخدام برامجها مثل أنظمة التشغيل والبرامج التطبيقية سواء الخاصة بحلول الأعمال أو للأعمال المكتبية والخدمات وغيرها، أو أجهزة الحاسب الآلي، وبأسعار منخفضة جداً، لاستخدامها في جميع القطاعات الحكومية, سواء وزارات أو هيئات أو جامعات أو مدارس وغيرها. وتوفر هذه الاتفاقيات عدداً من المزايا للدولة وقطاعاتها الحكومية، من أهمها:
1 ـ الحصول على الرخص للأنظمة التطبيقية وغيرها بأسعار تقل عن تكاليف الحصول عليها في ظل تعامل القطاعات الحكومية بشكل مستقل مع شركات الحاسب، بأكثر من 50 في المائة، أو مليارات الريالات سنوياً كوفورات لدولة مثل السعودية.
2 ـ الحصول على خدمات الدعم الفني من شركات الحاسب بأسعار منخفضة وجودة عالية.
3 ـ تطوير مهارات الموارد البشرية في القطاعات الحكومية من خلال تنفيذ برامج تدريبية متميزة مع الشركات العالمية.
وإذا نظرنا إلى الوضع الحالي في المملكة فيما يخص شراء الرخص وتنفيذ حلول الأعمال، وعلى مدى العقود الماضية، حتى بعد اعتماد وبدء مشروع التعاملات الإلكترونية الحكومي عام 2004، فإننا نلاحظ أن كل جهة حكومية، وأحياناً كل إدارة في القطاع الحكومي، تقوم بشراء رخص برامج الحاسب وأجهزة الحاسب الآلي بشكل مستقل وبأسعار تختلف من جهة إلى أخرى. كما ينطبق الحديث نفسه على عمليات تنفيذ حلول الأعمال، حيث تقوم كل جهة حكومية، وبشكل مستقل، بتنفيذ حلول الأعمال المختلفة، سواءً الأنظمة الإدارية أو المالية وغيرها، ومن الشركات نفسها.
ولتوضيح الحجم الكبير وغير المبرر للإنفاق على رخص وتنفيذ برامج الحاسب الآلي من القطاعات الحكومية، يمكن النظر إلى الحقائق والوقائع التالية:
1 ـ تم التعاقد بين عدد من الوزارات والقطاعات الحكومية وشركة أوراكل لتوفير رخص وتنفيذ برامجها الخاصة بإدارة موارد المنشأة (شؤون الموظفين والإدارة المالية والمشتريات وغيرها). وإذا نظرنا إلى عدد الموظفين في اثنتين فقط من هذه الوزارات والقطاعات لوجدنا أنه يفوق المليون موظف وموظفة، ما يعني في لغة رخص برامج الحاسب الآلي ولغة الأرقام المالية، تحميل ميزانية الدولة أكثر من ملياري ريال للحصول فقط على رخص استخدام نظام فرعي واحد (شؤون الموظفين والرواتب)، مع دفع مبالغ سنوية تصل إلى أكثر من 400 مليون ريال سنوياً، فقط لنظام فرعي واحد. ومع إضافة رخص الأنظمة الفرعية الأخرى التي قد تصل إلى أكثر من 15 نظاما فرعيا (مثل المشتريات والمستودعات والمخزون والمحاسبة والميزانية والمشاريع والعهد والصيانة وغيرها)، فستتضاعف التكلفة إلى عشرات المليارات في غضون السنوات القليلة المقبلة، وهذا فقط يغطي نفقات الرخص، وليس نفقات التنفيذ والصيانة والتدريب والاستبدال والأجهزة وغيرها.
2 ـ من الواضح أن هناك نوعا من الاحتكار في بعض الحالات، حيث نلاحظ أن هناك أكثر من عشر وزارات وقطاعات، يعمل لديها أكثر من 90 في المائة من موظفي الدولة، قد تعاقدت مع شركة واحدة ''أوراكل'' للحصول على رخص وتنفيذ برامجها باستخدام حزمة ''أوراكل'' لإدارة أنظمتها الإدارية والمالية وغيرها، لكن بشكل مستقل، ما حمل الدولة خسائر مالية كبيرة نظير عدم الاستفادة من اقتصاديات الحجم من ناحية، وصعوبة التعامل مع أنظمة وتطبيقات مختلفة لتشغيل النظام نفسه مثل إدارة شؤون الموظفين من ناحية أخرى. والغريب أن برنامج إدارة مشروع التعاملات الإلكترونية الحكومي رفض اعتماد نظام معلومات مركزي لإدارة أعمال القطاعات الحكومية الأساسية أو النمطية (شؤون الموظفين والرواتب والمالية والميزانية والمشتريات .. إلخ) الذي تعمل عليه جميع الوزارات والقطاعات الحكومية بشكل واحد، والذي دعا إليه عدد من المهتمين منذ عام 2006، بحجة منع الاحتكار وتحقيق منافسة عادلة بين شركات الحاسب، وذلك على الرغم من أن اعتماد نظام معلوماتي واحد للدولة يضمن توفيرا ماليا كبيرا للدولة، وتكامل وترابط البيانات، وسهولة الصيانة والتحديث. والآن حصل الاحتكار من خلال تعاقد أغلبية القطاعات الحكومية (كل جهة بشكل مستقل) مع شركة واحدة ''أوراكل'' وللأنظمة النمطية نفسها، لكن صاحبت ذلك زيادة أعباء وخسائر الدولة مالياً سواءً في الوقت الحالي أو المستقبلي، وزيادة صعوبة تكامل وترابط البيانات، وعدم استفادة الدولة والموظفين من توفير برامج تطويرية وتدريبية بشكل منهجي ومفيد، وعدم توافر فرص للاستثمار في موارد بشرية وطنية في مجال التقنية، إضافة إلى تناقض ما يحصل حالياً مع التوجهات الأساسية لإدارة مشروع التعاملات الإلكترونية.
3 ـ قام أيضاً عدد من الوزارات والقطاعات، منها ثلاث وزارات وقطاعات يعمل لديها أكثر من 75 في المائة من موظفي الدولة، بالتعاقد مع شركة واحدة ''تاتا'' لتنفيذ أنظمتها المالية والإدارية التي تم شراؤها من شركة أوراكل، وهذا ليس فيه فقط مشكلة من ناحية ترسيخ مبدأ الاحتكار ومنع المنافسة، الذي (كان) برنامج مشروع التعاملات الإلكترونية الحكومي يرفضها سابقاً، لكن، وهو الأهم، تعدد واختلاف طرق تنفيذ الأنظمة المالية والإدارية وغيرها بين جهة وأخرى، إضافة إلى احتفاظ شركة تاتا بجميع التعديلات والمصدر.
4 ـ تقوم كل جهة حكومية، وبشكل مستقل، بشراء أجهزتها المكتبية وخوادم وأجهزة ومستلزمات مراكز البيانات من شركات مثل شركة إتش بي وشركة ديل وغيرهما، إلا أنه مرة أخرى لا يوجد تفعيل لمبدأ اقتصاديات الحجم. ولتقدير حجم التوفير المالي الذي يمكن أن تحصل عليه الدولة، هناك مشتريات سنوية بعشرات الآلاف من الأجهزة وغيرها، تكلف الدولة مئات الملايين وربما تصل إلى عدد من المليارات.
وتستخدم القطاعات الحكومية المخصصات المالية المحددة لها من قبل وزارة المالية لشراء رخص وتنفيذ برامج وأجهزة الحاسب الآلي، دون البحث والتحري عن فرص توفير التكاليف على الدولة. وكل قطاع حكومي ينظر إلى ميزانيته المحددة من قبل وزارة المالية بشكل فردي، يسعى من خلالها إلى تعظيم منافع الجهة نفسها، دون النظر إلى عملية التبادل والتكامل مع الجهات الأخرى، وكذلك دون النظر إلى المنفعة الكلية. بينما يفترض من وزارة المالية، والمنوط بها إدارة ميزانية وخزانة الدولة، البحث والتأكد من الاستفادة من تفعيل مبدأ اقتصاديات الحجم في كل أعمال ومشاريع الدولة بشكل عام، وفي الحصول على رخص وتنفيذ برامج الحاسب الآلي بشكل أخص، لتوفير مبالغ مالية كبيرة يمكن الاستفادة منها في مشاريع أخرى تعود بالنفع للمواطن.
أما برنامج إدارة مشروع التعاملات الإلكترونية الحكومي، فلا يوجد له أي دور أو جهود في هذا الشأن، ناهيك عن عدم الالتزام بتنفيذ الخطة الاستراتيجية لتقنية المعلومات والاتصالات المعتمدة عام 2004 بشكل منهجي وعملي، وبدلاً من ذلك يتم العمل حالياً بشكل اجتهادي لتنفيذ مشروع التعاملات الإلكترونية الحكومية، يمكن وصفها بتنفيذ مشاريع سريعة خارج أي خطة استراتيجية، يتم تنفيذها للحصول على نتائج سريعة (وقتية فقط) لترضية الإدارة العليا من ناحية, ولكسب أكبر قدر ممكن من الوقت ( لعل وعسى) من ناحية أخرى. فمن الواضح أنه منذ عام 2004، كانت هناك عدة مبادرات مختلفة، لكنها غير منتظمة ودون منهجية وخطة واضحة، من قبل برنامج إدارة مشروع التعاملات الإلكترونية الحكومي، ودون نتائج ملموسة فعلياً، يراها ويشعر بها المواطن، ويبرر حجم المبالغ المالية المخصصة الكبيرة، وبالمليارات، لهذا البرنامج. أما ما يتوافر حالياً من خدمات إلكترونية، وهي ما زالت محدودة جدا مقارنة بالدول الأخرى المتقدمة وحتى غير المتقدمة، ويمكن الاطلاع على تقارير الأمم المتحدة التي تؤيد ما ذهبنا إليه، فهي نتاج جهود ذاتية لبعض القطاعات الحكومية، لا تأثير ولا دور لبرنامج مشروع التعاملات الإلكترونية الحكومي فيها.
وعلى الرغم من أن الموعد الرسمي والمعلن للجميع سواء لمجلس الوزراء والقطاعات الحكومية وقطاعات الأعمال والمواطنين للانتهاء من مشروع التعاملات الإلكترونية الحكومي كان بداية عام 2010، ونحن الآن في منتصف عام 2010، إلا أننا لا نرى أي نتائج أو مؤشرات توحي بوجود أو تفعيل برنامج التعاملات الإلكترونية في المملكة في أي وقت قريب. ولعل ما يلاحظ على مشروع التعاملات الإلكترونية الحكومي وجود تعتيم كامل وعدم شفافية على خطة ومنهجية وإدارة وتنفيذ المشروع، إضافة إلى عدم وجود أي معلومات موثوقة يمكن التأكد منها عن موقف المشروع، ونسبة الإنجاز، ومخاطر المشروع، الأمر الذي يعني، وحسب منهجية إدارة المشاريع، وجود مشكلات استراتيجية أو إدارية أو مخاطر في المشروع أو كلها معاً، وهو الأقرب، لكن لا ترغب إدارة المشروع التصريح بها أو مشاركة الجهات الأخرى ذات العلاقة بالمشروع حولها.
وما زلنا، وكما دعونا سابقاً (''الاقتصادية'' عدد 5591 وتاريخ 31/1/2009 وعدد 5950 وتاريخ 25/1/2010)، نرى ضرورة تكليف فريق أو لجنة مستقلة تتبع مجلس الوزراء بدراسة وتقييم برنامج مشروع التعاملات الإلكترونية الحكومي من جميع النواحي الاستراتيجية والإدارية والمالية والبشرية والفنية والقانونية، وقد تكون الخطة الأولى في عملية التصحيح، نقل الإشراف على برنامج مشروع التعاملات الإلكترونية الحكومي إلى مجلس الوزراء أسوة بما هو متبع في الدول المتقدمة، أو ضمه تحت مظلة هيئة عامة للمشاريع تتبع مجلس الوزراء (''الاقتصادية'' عدد 5915 وتاريخ 21/12/2009)، تعنى بتخطيط وإدارة المشاريع بأنواعها.
وللحديث بقية..