الهند الرمزية والفعل التاريخي!!
من يزور الهند، سيقرر أول الأمر عدم تكرار زيارتها مرة أخرى، خاصة عندما تكون الزيارة ليست لمسؤول كبير، وبرتوكولات، بل لشخص عادي، سيكتشف قضايا الفساد الإداري والمالي، في المطار أول نقطة تماس مع الهند، سيكتشف في الطائرة التي تقله إلى مومباي أو دلهي، أنه على متن طائرة كل من عليها هنود، تبدو له رائحة الزيوت واحدة، ورائحة الفلفل الحار والحراق، سيقابله عدد كبير من البؤساء والتعساء، بعضهم لا يجد مأوى ولا مسكنا، يتخذون من الصفيح سكنا وأحيانا يتخذون من علب الماء الكبيرة منزلا، وتشفق بحق على الناس، وتصاب بالمفاجأة عندما تسمع أن تعداد السكان تجاوز المليار ونصف المليار.
هذه الأفواه من يطعمها؟ من يلبي احتياجاتهم من ملبس ومسكن وتأمين صحي، ونظام وإدارة، وأمن، وتعليم، وتخطيط؟ التخطيط ممكن، لكن كيف إذا كان في الهند وحدها آلاف الديانات والمذاهب من يفصل بينها، آلاف الأفكار والمعتقدات، كلها متوحدة حول الهند، والبخور، والعطور وحول غاندي الرمز، ولكن ثمة صداما داخليا، لم يؤخر الهند عن ضبط إيقاعها التعليمي والفني والتقني لتكون دولة عالمية بكل المواصفات.
يقول الثوريون جدا إن الإصلاح والثورة والتغيير تحتاج إلى نظريات ثورية وأممية، لكن بعد أن استمعنا إلى رجال التخطيط التنموي وباحثين عدة في هذا المجال قالوا إن التغيير والإصلاح ليس قرارا سياسيا فقط، ليس عملا إنقلابيا فاشلا، يزج فيه الرفاق بالرفاق، يجندلون فيه رقاب بعضهم باسم الثورات التي يقيمون لها المناسبات والأعراس، ويقيمون لها أصناما تحرس الشعب بقدر ما تضبط أنفاسه، الإصلاح منهجية تراكمية خطط تنفذ دون ضوضاء، ورؤية لزمن قادم تؤسس وتطبخ على نار هادئة.الهنود لا يختلفون عن شعوب العالم لا بل إن بعضا من شعوبنا أفضل منهم حالا وإمكانات وقدرات، لكنهم على اختلافهم يقيمون احتراما لغاندي ولجواهر لال نهرو لأنديرا غانديو لراجيف وسونيا غاندي، مثلنا نحن نعتز ونفتخر بالملك المؤسس عبد العزيز ونحن نقرأ تجربته في بناء الدولة السعودية في ظروف بالغة التعقيد، وتجاذبات دولية مختلفة، وحروب قبلية، وعندما ننظر إلى ما نحن فيه تزداد درجات الاعتزاز، خاصة ونحن نرى الخطط والمشروعات الطموحة في مختلف المجالات وبخاصة في مجالات العلم والمعرفة. وهنا ونحن ننظر إلى الهند كيف أصبحت دولة كبيرة وقوة اقتصادية عالمية ننظر بإعجاب لحركة التطوير والإصلاح المنهجية التي يقودها خادم الحرمين الشريفين بدءا من جامعة كاوست، ومدينة العلوم والتقنية، ومدينة الطاقة الذرية والمتجددة، وجامعات جديدة وحديثة وتعليم عال متخصص، وابتعاث خارجي متميز، والمهم والأكثر أهمية المدن الحرفية والمهنية التي تصنع البنية التحتية لأي فكرة أو صناعة.
قد لا يعرف الهنود شخصية تاريخية أو سياسية في بلادهم لكنهم بالطبع يعرفون شخصيات لها طابع رمزي لا يمكن نسيانه بجرة قلم مثل غاندي الذين غضبوا ذات مرة لأن طالبا أجنبي لمزق روبية واحدة عليها صورته، تاتا الذي يرون فيها أبا للتقنية والعلوم، اميتيتشاب الذين يرون فيه هوليوود الهند وصداها السينمائي الخارجي وحضورها الثقافي.
الشعب الهندي عاطفي وبسيط وعملي، ولا مجال فيه لغير العمل من أجل الحياة، الجامعات فيه مفتوحة للجميع، تعميم المعارف كان سببا في نهضة الهند وتطورها، في المعاهد الخاصة والمتخصصة بدأت حكاية النهضة التقنية، لولا ذلك لكان للأسطورة دور في حياة الهند، لكانت الفلسفة وجودا، وحضورا، لكانت للديانات قصة كبيرة، لكن الدولة تجاوزت تعقيدات الواقع، ليس بمحاربته وإنما بتوظيفه لخدمة الهند، بإشاعة التعليم وتعميم المعرفة، وليعبد الهنود ما يعبدون، لكن دورة العلم والمعرفة لا تنتهي.
في شوارع الهند ملايين الدراجات، لا ترى إلا الرؤوس، وأن تدحرج أحدهم فهو في عداد الموتى، الحياة لا تتعطل، الكل يمضي، والمتوفى يكون محظوظا أن وجد من يبعده عن الطريق، أو وجد البلدية لتقوم بالواجب، في الصباحات الباكرة جدا ترى حشودا من الموظفين يستقلون البايسكلات للذهاب إلى محطة القطار للذهاب والعمل في مومباي مثلا، مسافة لا تقل عن 400 كيلو متر ذهابا ومثلها في العودة، ما إن ترى دراجة نارية جديدة عالمية، حتى تراها هندية الصنع بعد شهرين على الأقل، وإن رغبت في شراء سلعة أجنبية، فمن سابع المستحيلات أن تجد سلعة أجنبية، وإن وجدتها لن تشتريها بسبب وجود البدائل ولكونها غالية الثمن. اللافت للانتباه، كثرة المكتبات في الأسواق، كثرة العلماء والخبراء، حرص الهنود على قراءة صحيفة يومية محددة تعنى بالاقتصاد،والطبقة المخملية منهم تعمل بنظام واضح،في مجالات الصناعة والتعليم والاستثمار،وغالبية الهنود المتعلمين يستخدمون الإنجليزية لغة تعامل رئيسة بينهم، وبخاصة في طبقة الأنجلو- هندي، وفي المطارات تجدهم يلبسون لباسا خفيفا ويحملون معهم كتبا تظهر جانبا من شخصيتهم الجديدة، وأستذكر وأنا وفي مطار مدينة مهاراشترا ونحن نودع صديقا، كان عدد المودعين لافتا للانتباه، الكل يسلم ويقبل بينما رجال الأعمال والحضور مندهشين لما يحصل. لم نكن نرى الشرطة بكثافة، لا مرور مكثف، لا سيارات عسكرية، فالأمن يصنعه المجتمع أولا، وتصنعه المؤسسات، والمصانع وتصنعه مؤسسات الأمن الشريك الاستراتيجي في التخطيط لمستقبل الهند. الخليج والسعودية تحديدا مطلعان بشكل كبير على التجربة الهندية، زيارات لرجال المال والأعمال لمدن التقنية في بنجالور للجامعات الهندية المتخصصة، للتعاون المتبادل بين الشركات، في الجوانب التقنية، والعلمية والأكثر من ذلك أن المملكة توازن في علاقاتها الدولية وتنظر إلى المستقبل واللافت للانتباه أكثر أن مهندس العلاقات الاستراتيجية هو من يقوم بالزيارات الرسمية أولا وهو من يتابع ترجمة هذه الاستراتيجيات ثانيا.