التعويض عن تفويت الفرصة «الكسب الفائت»

من المسائل الفقهية القضائية التي تحتاج إلى إعادة نظر وتأمل مسألة التعويض عن تفويت الفرصة ''الكسب الفائت''، وذلك لأن التمييز بين تفويت الفرصة أو الكسب الفائت والأفكار الافتراضية دقيق, ولأن تفويت الفرصة أمر احتمالي وكذلك الأفكار الافتراضية, إلا أنها لا يمكن أن تشكل في الواقع السبب المؤكد أو اليقيني للضرر.
ويفرق علماء الفقه والقانون بين ضرر تفويت الفرصة المرتبط الضرر المستقبلي المحقق وبين الضرر المحتمل غير المحقق، فالضرر المستقبلي هو الضرر الذي تحقق سببه وتراخت آثاره كلها أو بعضها إلى المستقبل كإصابة شخص بعاهة مستديمة تعجزه عن الكسب، فإن الإصابة في ذاتها محققة ولكن الخسارة المالية التي تصيب هذا الشخص من جراء عجزه عن الكسب هي ضرر مستقبلي توجب التعويض المناسب. بينما الضرر المحتمل لم يتحقق سببه في الأساس, وتجدر الإشارة إلى أن الفقه الإسلامي شدد في مسألة التعويض عن تفويت الفرصة، وذلك لأن الفرصة لا تنتمي إلى عالم الفقه الحقوقي المادي لوجود الواقعية الاحتمالية, وإن كان التفويت ذاته متحققا، ولذلك جاءت تطبيقات الفقهاء عن المنفعة التي انعقد سبب وجودها لعموم قوله ـ صلى لله عليه وسلم ـ ''لا ضرر ولا ضرار'' تستوعب الأضرار المستقبلية التي انعقدت أسبابها.
ودلالة هذه القاعدة الشرعية والفقهية عامة، فيدخل فيها كل الأضرار الحاصلة بسبب تفويت المنافع التي انعقد سبب وجودها.
ويشترط للتعويض هنا أن يكون هذا التفويت حصل نتيجة التعدي، أما إن انقطعت العلاقة بينهما فلا تعويض إذاً، لقول النبي ــ صلى الله عليه وسلم ـ لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعي. ولأن المدعى عليه هنا متمسك بالأصل ومستصحب له، والأصل براءة الذمة.
وأقوال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في ذلك واضحة ومن ذلك ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية بوضوح في مسألة الضمان بسبب تفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها، وبيّن أن الإتلاف الموجب للضمان، نوعان:
النوع الأول: إتلاف موجود
والنوع الثاني: إتلاف معدوم، انعقد سبب وجوده، وتفويت المنفعة التي انعقد سبب وجودها.
وورد عن شريح قبل ذلك أنه قضى في الكسر إذا انجبر، قال: لا يزيده ذلك إلا شدة، يعطى أجرة الطبيب وقدر ما شغل، فإعطاؤه قدر ما شغل من صنعته، هذا يمثل التعويض عن المنفعة التي فاتت عليه بسبب هذا التعدي المتمثل في الكسر.
ولكن هل يعوض عن الفرصة المحتملة من ضرر التفويت وهو المهم في هذا البحث ومن ذلك التعويض عن الضرر الناتج عن مماطلة المدين في دفع استحقاقاته مثل تعويض المقاول عن تأخر صرف مستحقاته من قبل جهة الإدارة والقضاء في هذه المسألة على اتجاهين:
الاتجاه الأول: المنع لأن هذا يدخل في الربا الصريح.
الاتجاه الثاني: أنه يعوض متى ما ثبت الضرر قضاء, والتعويض هنا ليس عن تأخر السداد وإنما عن الضرر ودليل ذلك القاعدة النبوية ''لا ضرر ولا ضرار''.
وللاتجاه الثاني شواهد من التطبيقات القضائية والمؤيدة من ديوان المظالم من ذلك ما جاء في الحكم الصادر في عام 1412هـ:
''.... وحيث نصت المادة التاسعة والعشرون من نظام مشتريات الحكومة على: أن الجهة الإدارية إذا تخلفت عن تنفيذ التزاماتها جاز للمتعاقد معها الرجوع عليها بالتعويضات.......'' كما نصت على أنه: ''لا يجوز للمتعاقد أن يمتنع عن تنفيذ العقد استناداً لتخلف الجهة الإدارية عن تنفيذ التزاماتها''.
وحيث إن الذي يفهم من هذه المادة: أن تخلف الجهة الإدارية عن الوفاء بالتزاماتها المالية يعد سبباً للتعويض عن الأضرار الناتجة عنه إذا وفىّ المتعاقد معها بجميع التزاماته أو ببعضها، دون أن يمتنع عن الوفاء بجميعها مطلقا، وحيث إن الثابت من خلال المستندات المرفقة بملف القضية: أن المؤسسة المدعية لم تمتنع عن تنفيذ العقد مطلقا، وإنما استمرت في الوفاء ببعض التزاماته في الجملة منذ بداية العقد إلى حين سحب العملية منها.
وحيث إن قيمة القدر الذي وفت به المدعية من التزامات العقد تعتبر من حقوقها التي يجب صرفها لها في المواعيد المقررة بموجب العقد.
وحيث تذرعت المدعى عليها في تأخير صرف بعض هذا القدر الذي تستحقه المؤسسة المدعية وإيقاف صرف البعض الآخر، بتدني مستوى أداء المدعية لأعمالها، وتوجه نية المدعى عليها إلى سحب العملية منها وتنفيذها على حسابها.
وحيث إن هذا الأمر لا يعطي للمدعى عليها حق التأخر في صرف القدر الذي تستحقه المؤسسة المدعية، ولا إيقافه طوال هذه المدة، لما في ذلك من الأضرار بالمؤسسة وما يتبع ذلك من المساهمة في تدني مستوى الأداء أكثر فأكثر، ومن هنا لم يجعل النظام للجهة الإدارية الحق في تأخير صرف المستحقات وإيقافها بسبب تدني الأداء، وإنما الذي أقره النظام في هذا المضمار أن تقوم الجهة الإدارية بصرف مستحقات المتعاقد معها في المواعيد المتفق عليها بموجب العقد بالنسب التي يستحقها، هذا إذا اتجهت نيتها التي عدم سحب العمل وتنفيذه على حسابه، أما إذا توجهت نيتها إلى سحبه وتنفيذه على حسابه، فيتعين حينئذ بموجب النظام إنذاره دون تأخير، وانتظار خمسة عشر يوما، ثم القيام بسحب العمل وتنفيذه على حسابه إن لم يتحسن أداؤه.
وكان بإمكان المدعى عليها أن تقوم بأحد هذين الخيارين منذ بداية العقد، أما أن تستمر مع المؤسسة المدعية على مدى ثمانية أشهر وتسعة أيام، دون أن تعدل الأمر على وفق النظام، ودون أن تفي للمؤسسة المدعية بالمبالغ التي تستحقها لقاء ما قامت به من أعمال، فهذا لا يمكن أن يقر لما في ذلك من الإضرار بالمؤسسة والمساهمة في تدني مستوى أدائها، إذ ليس من باب الضغط المشروع على المؤسسة لحفزها على تحسين أدائها، ولا من باب العقوبة المشروعة، أن تقوم المدعى عليها بتأخير صرف المستحقات ولا إيقافها، طالما أن النظام قد حدد لذلك أسلوباً آخر غير ذلك. هذا وحيث ادعت المؤسسة أنها قد تضررت من هذا الأسلوب الذي اتخذته المدعى عليها بحقها يعتبر هذا تجاوزا لا يكمن أن تعفى من السؤال عنه، وحيث يقتضي التأخير في تسديد الاستحقاق وإيقافه في الغالب وجود ضرر ما، وحيث إن المقرر في الشريعة الإسلامية أن ''لا ضرر ولا ضرار'' لذا فإنه يتعين والحال هذه إلزام المدعى عليها بتعويض المؤسسة المدعية عن هذا الضرر المتوقع. وتخريج ذلك من فقه الشريعة الإسلامية / أن التأخر في صرف المستحقات المالية أو إيقافها، دون أن يكون لذلك سند في العقد أو النظام: إخلال بالالتزام، وقد شدد كل من الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة على الوفاء بالعقود والالتزامات في مواطن كثيرة منها وعليه فإن الوفاء بالعقود والالتزامات واجب شرعي, كما أن الإخلال بشيء منهما محرم بنص الكتاب والسنة، وإذا ثبت هذا فإنه يتعين والحال هذه مجازاة من أخل بشيء من ذلك بعقوبة تعزيرية لما تقرر في الشريعة الإسلامية من أن كل أمر محرم لم يرد فيه عقوبة دنيوية محددة، فإن فيه عقوبة تعزيرية يقدرها القضاء مسترشدا في ذلك بظروف القضية وملابساتها، وما جرى عليه العرف، وحيث إن الجزاء التعزيري في الشريعة الإسلامية يتنوع إلى بدني ومالي، وحيث إن العقوبة كلما كانت من جنس العمل الذي أوجبها كلما كانت أجدر أو أولى بالاختيار من غيرها، وحيث إن تقصير الجهة الإدارية في هذه القضية يتعلق بالمال، لذا فإن الأولى توقيع جزاء مالي على هذه الجهة لما تقرر من أن الجزاء من جنس العمل، وحيث إن مدعي الضرر بسبب التقصير المشار إليه هو الجهة المتوقع تضررها بسبب ذلك، لذا فإن الأولى أن يقدر ما تجازى به الجهة الإدارية بحجم الضرر المتوقع حدوثه بسبب التقصير ليكون ذلك من نصيب مدعي الضرر، طالما أن التقصير متعلق به دون غيره.
وأصل هذا التخريج في الشريعة الإسلامية مسائل منها:
أولا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الجزء الثامن والعشرين من مجموع الفتاوى:
روى أبو داود وغيره من أهل السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن سرق من التمر المعلق قبل أن يؤويه إلى الجرين أن عليه جلدات نكال وغرمه مرتين وفيمن سرق من الماشية قبل أن تؤوى إلى المراح أن عليه جلدات نكال وغرمه مرتين، وكذلك قضى عمر بن الخطاب في الضالة المكتومة أن يضعف غرمها، وبذلك قال طائفة من العلماء مثل أحمد وغيره، وأضعف عمر وغيره الغرم في ناقة أعرابي أخذها مماليك جياع، فأضعف الغرم على سيدهم ودرأ عنهم القطع، وقضى عثمان بن عفان في المسلم إذا قبل الذمي عمدا أنه يضعف عليه الدية لأن دية الذمي نصف دية المسلم وأخذ بذلك أحمد بن حنبل. أ. هـ.
ثانياً: جاء في قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم 25 وتاريخ 21/8/1394هـ في مشروعية الشرط الجزائي قولهم: ...... وبتأمله أي الشرط الجزائي يتضح أنه في مقابلة فوات منفعة غير محقق وقوعها ولكن نظراً إلى أن المخالفة المترتبة على تفويت فرصة اكتساب المنفعة صارت أهم عائق لتفويتها اتجه القول بضمان هذه المنفعة، ومثل ذلك مسألة العربون، فإن المشتري يبذل مبلغا من المال مقدما عند تمام عقد الشراء على أن يكون له الخيار مدة معلومة، فإن قرر الشراء صار العربون جزءا من الثمن وإن قرر عدم الشراء صار العربون مستحقا للبائع في مقابلة عدم تمكنه من عرض بضاعته للبيع بعد ارتباطه مع المشتري بعقد البيع المعلق، ووجه استحقاق البائع للعربون في حال عدول المشتري عن الشراء، أنه في مقابلة تفويت فرص بيع هذه السلعة بثمن أكبر من ثمن بيعها على المشتري بيعاً معلقا يتحمل العدول عنه.
ثالثا: قال سماحة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، القاضي بمحكمة التمييز للمنطقة الوسطى والشرقية في السعودية، وعضو هيئة كبار العلماء، في بحث له بعنوان ''مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته'' منشور في مجلة ''المجمع الفقهي'' العدد الثاني لعام 1408هـ: ''السادسة: تضمين المماطل ما يترتب على الدائن من نقص في مقدار دينه بسبب تغير السعر أو بسبب الحرمان من إدارة هذا الدين وتقليبه في الأسواق التجارية وذلك بالحكم له بذلك النقص على مماطلة عقوبة له على ظلمه وعدوانه بليه ومماطلته والحجة في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : ''لي الواجد يحل عرضه وعقوبته'' وقوله عليه الصلاة والسلام: ''مطل الغني ظلم '' وقد يكون من عموم الاستدلال ما في تغريم السارق غرم ما سرقه مرتين للمسروق له مما تتوفر فيه شروط القطع وذلك على سبيل العقوبة بالمال... وبهذا يتضح أن العقوبة بالمال أمر مشروع وإن تمليك المعتدى عليه بالسرقة لما زاد عن حقه المسروق معتبر، ولا تعتبر هذه الزيادة من قبيل الربا وإنما هي عقوبة للجاني وتعويض عن منفعة تفوت بحرمان المجني عليه من الانتفاع بماله مدة بقائه في يد الجاني، وهكذا الأمر بالنسبة لمطل الغني ولي الواجد'' أ. هــ
وبعد فمن خلال هذه المسائل الشرعية يتبين الأصل الشرعي للقول بموجب مجازاة المقصر في الوفاء بالتزاماته بجزاء مالي يقدر بحجم الضرر المتوقع في الغالب، ليدفع كتعويض للطرف الآخر في الالتزام باعتباره المتضرر بسبب ذلك التقصير في الغالب إذا ادعى تضرره منه. وهذا واضح من تضعيف الغرامة في المسائل السابقة التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية.
وصرف قيمتها لمن وقع عليه الضرر، دون بيت المال، وكذا من مسألة الالتزام بدفع غرامة معينة لقاء منفعة مظنونة كما في بيع العربون، والشرط الجزائي.
وإذا ثبت هذا فإنه يتعين حينئذ في هذه القضية إلزام المدعى عليها بغرامة مالية تقدر بحجم الضرر المتوقع في الغالب، لقاء ما أقدمت عليه من الإخلال بالتزاماتها المالية المنعقدة، والمتمثلة في تأخرها في صرف مستحقات المدعية ثم إيقافها مدة طويلة قبل سحب العملية منها، وحيث اطلعت الدائرة وهي بصدد تقدير هذه الغرامة، على ظروف القضية وملابساتها وسائر أوراقها ومستنداتها، فاستقر توجهها في ذلك بعد التحري والاجتهاد على تقدير حجم الضرر بواقع 10 في المائة من كامل قيمة المدة التي عملت المؤسسة المدعية خلالها، وهي ثمانية أشهر وتسعة أيام، ويمثل ذلك مبلغ 70 ألف ريال و306 ريالات وثماني هللات.
وحيث إن المؤسسة المدعية هي الجهة المتضررة من تقصير المدعى عليها الموجب للغرامة فيتعين والحال هذه على المدعى عليها صرف مبلغ هذه الغرامة للمدعية، باعتباره تعويضا مناسبا عن التأخر في صرف المستحقات وإيقافها. أ. هـ .
فالحكم القضائي السابق قرر جواز التعويض عن الضرر الحاصل من تأخر صرف المستحقات.
ومن خلال ما تقدم من أدلة شرعية وأقوال فقهية وأحكام قضائية نجد أن التعويض عن الكسب الفائت أو الفرصة الضائعة تسنده قواعد الشرع وأحكامه متى ما وجد الضرر وتم تحديده بطريقة معتبره قضاءً، وقاضي الموضوع هو الذي يحدد تقديره بناءً على واقعة القضية وظروفها والملابسات المقارنة لها, مبيناً في ذلك عناصر الضرر والملائمة بينها وبين تقدير التعويض.

المزيد من مقالات الرأي