الملك يكمل صياغة عقد الثقافة بمركز خدمة اللغة

مَن يتأمل السياق التتابعي لمشاريع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز, في الجانب الثقافي, يجد أنه بالفعل أمام منظومة يتكامل عقدها تباعا، ووفق خطى ثابتة ومدروسة بعناية، تماما كما تنتظم حبات العقد, بحيث يأتي كل مشروع ليكمل الآخر، ويُتمّ دوره ويعضده، بمعنى أننا بتنا على ثقة بأن الوطن أصبح بهذه المشاريع المتلاحقة يتموضع في إطار شخصية ثقافية تميزه عما سواه، وتمنحه صفة ثقافية .. إسلامية الهوية .. عربية اللسان .. عالمية الأفق.
لقد أولى الملك عبد الله الجانب الثقافي جل اهتمامه، ومنذ وقت مبكر، حينما دفع بمؤسسة الحرس الوطني قبل 25 عاما إلى أن تتبنى المهرجان الوطني للتراث والثقافة، في سياق إيمانه بأهمية العمل الثقافي في بناء الأمم، وتشييد معمار الوعي فيها كأحد أهم أسس تنمية الإنسان والاستثمار فيه، ولأنه يعي تماما حجم المسؤولية في اصطياد هذا الهدف، فقد عمد إلى البناء خطوة خطوة، لأن المنجز الثقافي لا يعتمد على بناء المقار وتعليق اللافتات بقدر ما يستند إلى منتجات تراكمية يأخذ بعضها برقاب بعض وصولا إلى مرتبة النضج التي يمكن أن تفرخ كثيرا من المؤسسات ذات الطابع الثقافي، وهو ما حدث بالفعل بعدما استطاعت الجنادرية كمهرجان ثقافي أن تترك بصمتها على خريطة الثقافة العربية والإسلامية والدولية عبر مسيرة ربع قرن، صافحت فيه الرياض مختلف الأفكار والثقافات والألوان الأدبية، من خلال ضيوف المهرجان الذين أثروا الساحة الوطنية بطروحاتهم ومحاضراتهم وندواتهم على مدى السنوات الماضية.
لذلك وبعد أن اطمأن - يحفظه الله - على متانة الأساس الثقافي بنضج التجربة، وقابليته لاستيعاب أيّ مُتمّم ينطلق به إلى العالمية, فاجأ الجميع بالإعلان عن جائزة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للترجمة بفروعها الخمسة ليقيم جسرا جديدا بين الثقافة العربية والثقافات الأخرى، يمكن أن يشكل في بعض جوانبه أحد مساقات مشروعه الكبير في حوار الأديان والثقافات، مثلما يشكل في جانب آخر نافذة واسعة لفهم الآخر، ورفع سقف محددات الوعي. ولأن ملامح الرياض كعاصمة للوطن ما عادت مجرد ملامح تلك العاصمة لدولة نفطية، بعد أن أصبحت بحضورها الثقافي والفكري على سن القلم لمعظم مفكري ومثقفي العالم بمختلف مشاربهم .. فقد بادر ـ حفظه الله ـ بإلحاق مبادرته الأولى بأخرى تلتقي سابقتها في الهدف، لكنها تفتح دائرة الفرجار صوب العالمية بشكل أكبر، حينما اختار أن يعلن جائزة الملك عبد الله العالمية للتراث، وجائزة الملك عبد الله العالمية للثقافة في احتفال الجنادرية بيوبيلها الفضي، ليمنح ثقافتنا المحلية بعدا عالميا ما عاد ينتظر دوره البروتوكولي في اختيار هذه العاصمة أو تلك كعاصمة للثقافة العربية، لأنه وبحسه الوطني والقومي والدولي أدرك أن الثقافة ليست مشروعا وقتيا يرتبط بمواعيد ثابتة، ولا سلعة تنتهي بتاريخ صلاحية، وإنما هي رسالة وقيمة حضارية كبرى تتكامل تساوقا ضمن عمل تراكمي يشد بعضه بعضا، وتؤسس براعمه لثماره، ليأتي بعدئذ دور خدمة اللغة كوعاء لهذه الحضارة عبر تنظيم مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، الذي أعلن عنه أخيرا بهدف إيجاد البيئة الملائمة لتطوير وترسيخ اللغة العربية ونشرها، ووضع المصطلحات اللغوية والعلمية والأدبية والعمل على توحيدها وتفعيل أدائها. وهي لفتة ذكية تأتي لتكسر حالة الجمود التي أصابت بعض مجامع اللغة، ولتتم إطار الصورة للمشهد الثقافي الذي بلغته المملكة بهذه المؤسسات الثقافية والجوائز والمراكز, التي جعلت من الرياض منتدى عالميا مفتوحا لهواء الثقافة الطلق في كل ما يتصل بالفكر والأدب والتراث والثقافة، ومنطلقا لصناعة الوعي العام، وشريكا فاعلا في تحقيق الأمن الفكري دوليا بتحصين المفاهيم بالحوار والبحوث والدراسات، ومنارة مضيئة لبيان صورة الثقافة الإسلامية الحقيقية التي أعطبها بعض أبنائها عندما حشروها بافتعال الخصومات مع الآخرين.

المزيد من الرأي