سياستنا الجنائية
يقوم شاب مراهق بسرقة سيارة وينطلق بها إلى أحد الشوارع ليمارس هوسه ''بالتفحيط''. عمل إجرامي يستحق العقاب. خاتمته, بافتراض القبض على هذا الشاب, حكم قضائي يقضيه في أحد السجون, ثم يخرج وحاله بين أمرين: إما صالح تائب, وإما مكتسب لمهارات جديدة في عالم الجريمة. هذه الواقعة تحدث مرات ومرات, وقس عليها أنواعا مختلفة من الجرائم. فكيف نحد من وقوع الجرائم؟ وكيف نضمن محاكمة عادلة لهذا الفاعل, من لحظة القبض عليه حتى انتهاء محاكمته؟ وما عقوبته المناسبة ووسائل إصلاحه؟
إن أجوبة كل ذلك تكمن في السياسة الجنائية التي نرسمها؛ لمنع الجريمة أولا، ثم مواجهتها إذا حدثت ثانيا. هي مجموعة من الوسائل لتحقيق الغرضين، بمنهج الشريعة الغراء: لا ضرر ولا ضرار, ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. السياسة الجنائية تعكسها أنظمة وتطبيقات متسقة ومنسجمة, بعيدة عن العشوائية وردات الفعل. الجريمة ليست مجرد تعدٍ على الأمن؛ وإنما هي سلسلة طويلة من الأعباء الاقتصادية والاجتماعية والعدلية, ونتاج ظروف وأحوال كثيرة.
لقد واجهنا تحديات أمنية كبيرة, وفي كل مرة تتحمل المؤسسة الأمنية العبء وحدها. لماذا نجحنا في مواجهة الإرهاب؟ لأن سياسة جنائية قد صيغت لمواجهته. لم تقم على خيار القبضة القوية فقط, وإنما على خيار اليد الحانية أيضا. سياسة القوة من غير عنف واللين من غير ضعف. هذا النجاح هو وليد الخبرة والنظرة الواعية والعمل للمستقبل.
نعم إننا نعيش طفرة تنظيمية منذ صدور أنظمة المرافعات الشرعية 1421, والإجراءات الجزائية 1422, والمحاماة 1422، ثم صدور نظام القضاء الجديد 1428؛ المتضمن إنشاء محاكم جزائية، والتقاضي على درجتين. إلا أن منظومة العدالة الجنائية, مع كل هذا, في حاجة ماسة إلى إصلاحات أساسية على الصعيدين: النظامي (القوانين) والمؤسسي.
الجرائم التعزيرية منها ما هو منظم (مقنن) بموجب أنظمة جزائية, وأغلبها لا يزال متروكا للتقدير تجريما وعقابا. والتقدير لم يعد أمرا مقبولا؛ لأن تنوع الوقائع واختلافها، وواقع الأحكام وتفاوتها, ومعايير المحاكمات العادلة؛ تستوجب التحرك سريعا لمعالجة هذا الأمر. وهناك تجارب في هذا الجانب لعل منها النظام الجزائي الموحد لدول مجلس التعاون الذي أُقر قبل سنوات 1997؛ كقانون استرشادي لدول المجلس.
أما النوع الأول، الذي تم تنظيمه في فترات زمنية مختلفة؛ فهو في حاجة إلى مراجعة شاملة؛ لإيجاد تناسب في العقوبات بين أنواع الجرائم التي تعاقب عليها هذه الأنظمة. هنا تتدخل السياسة الجنائية لتضع نوع العقوبة المناسبة, ومعايير حديها الأدنى والأعلى في نظرة شاملة غير مجتزأة.
على الصعيد المؤسسي، لا تزال الصورة غير واضحة المعالم. التحقيق تتشارك فيه أكثر من جهة, والأولى أن تكون مرجعية التحقيق في جهة واحدة وفق نظام الإجراءات الجزائية. كما أن اللجان الإدارية تفصل في بعض الدعاوى الجزائية وتشمل أحكامها عقوبات بالسجن.
حالة الشاب التي ذكرتها أعلاه، هي نموذج لنجاح منظومة العدالة الجنائية أو قصورها. ليس بعد أن يقع الشاب في هذه الجريمة؛ وإنما وقايته من الوقوع فيها. مثلا: إذا عرفنا أن أنواعا معينة من السيارات هي الأكثر سرقة؛ فيجب تأمين صناعتها بالقدر الذي يحد من ذلك. إذا قضينا على أماكن ''التفحيط''؛ فإننا نقي المجتمع وهذا الشاب من أسباب الجريمة. وقس على ذلك ما تريد!
السجن وحده لم يعد أنجع أساليب مواجهة بعض الجرائم؛ فالعالم كله يعاني اكتظاظ السجون, وهي مشكلة لا تكاد تخلو منها أجندة مؤتمرات الأمم المتحدة المتخصصة، فضلا عن أن مفاسده تفوق مصالحه في بعض الحالات. لذا؛ فإن ترحيل أو إبعاد بعض مرتكبي أنواع معينة من الجرائم خير من الحكم عليهم بعقوبة السجن؛ فبلدانهم أولى بإصلاحهم. ويجب ألا نتحمل الأعباء الأمنية والاقتصادية والاجتماعية لجرائم هؤلاء، ما لم تكن من الجرائم الخطيرة.
ربما نكون في حاجة إلى مجلس للعدالة الجنائية يضم جميع الجهات المعنية لرسم السياسة الجنائية وبيان معالمها، ومراقبة حُسن سير تطبيقها, وطلب تعديل ما يلزم من أنظمة أو إعداد مشاريع جديدة؛ ضمانا لحماية المجتمع من أسباب الجريمة وآثارها، ولتتكامل الأدوار؛ وقاية ومواجهة وإصلاحا.