«فيك الخصام وأنت الخصم والحكم»
أثارت المادة 73 من نظام المرور الجديد (1428هـ) نقاشاً فقهياً في الأيام الماضية, بين من يرى أن رفع الغرامة لحدها الأعلى بعد مضي 30 يوماً من تاريخ تحرير المخالفة نوع من الربا, ومن يرى أن ذلك لا يدخل مطلقاً في باب الربا. وتشعب الحديث حول الموضوع حتى طالب أحد عمداء كليات الشريعة (السابقين) إدارة المرور «بالتراجع عن القرار والانصياع للفتوى». بل إن هناك من اعتبر ذلك من باب أكل أموال الناس بالباطل.
ولست بصدد تأييد هذا الرأي أو ذاك, ولا مناقشة الخلط الذي تم بين النص النظامي والقرار الإداري, وإدارة المرور باعتبارها جهة تنفيذية لأحكام نظام المرور. وإنما لا بد من طرح سؤال: من تحق له محاكمة النص النظامي (القانوني)؟ هل توجد جهة قضائية تنظر في مدى دستورية النص القانوني من عدمه, فتحكم بإلغائه إذا تبين انطواؤه على مخالفة دستورية؟
كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - هما دستور المملكة, وهما الحاكمان على النظام الأساسي والأنظمة كافة (المادة 7 من النظام الأساسي للحكم), ثم تلي ذلك الأنظمة الأساسية (النظام الأساسي للحكم, نظام مجلس الشورى, نظام مجلس الوزراء, ونظام المناطق), ثم تأتي الأنظمة الأخرى، ثم تأتي اللوائح. هذه التراتبية تقتضي أن يراعي الأدنى الأعلى على النحو المبين أعلاه. فلا لائحة تخالف نظام, ولا نظام يخالف نظاماً أساسياً, ولا ذلك كله يخالف الكتاب والسنة. وهو تدرج تراعيه أنظمة المملكة ولوائحها.
ومع ما يحيط بمشروع النص النظامي أو اللائحي من مراجعة وتدقيق بين أكثر من جهة, فإن اعتلالهما بمخالفة الدستور أو أحد الأنظمة الأساسية أمر وارد، إما بوجود صياغة توحي بالمخالفة, أو إنشاء حكم ينطوي على مخالفة صريحة.
والقول بالمخالفة الدستورية والتصدي لتبعاتها القانونية ليس أمراً يسيراً، فالنص النظامي يتحول من حاكم, إلى محكوم له أو عليه، ومن حَكم في النزاع, إلى محل للخصام. وهي مواجهة لا تكون في كل الأحوال قانونية, وإنما قد يتداخل معها عوامل أخرى, ليست في كل الحالات بريئة النوايا والغايات.
ولذلك, فإن التشريعات المقارنة لا تركن إلى مبدأ ولاية امتناع المحاكم عن تطبيق نصوص القانون إذا ظهر للمحكمة مخالفتها الدستور, وإنما تعهد إلى جهة قضائية عليا, تسمى في الغالب المحكمة الدستورية, تختص بالرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح, وفق إجراءات قانونية محددة. وقد يصدر الحكم بإلغاء النص المخالف, ويعد في هذه الحالة كأن لم يكن.
لقد مثل نظام القضاء الجديد (1428هـ) نقلة نوعية في التنظيم القضائي بإنشاء المحكمة العليا, حيث تختص بمراجعة الأحكام القضائية التي تدخل ضمن ولاية القضاء العام في أحوال محددة بينها النظام. أي أن المحكمة العليا تحاكم الحكم القضائي من خلال مراقبة سلامة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وما يصدره ولي الأمر من أنظمة, ولا يدخل ضمن اختصاصات المحكمة العليا الرقابة على دستورية الأنظمة واللوائح. ويجب التنبه للفرق بين مراقبة سلامة التطبيق وبين مراقبة دستورية النص في ذاته.
إن مواجهة النص القانوني بشبهة المخالفة الدستورية, تستدعي وجود جهة عليا مختصة بأحوال وإجراءات معينة, تحفظ للنص النظامي خصائصه وغاياته, تحميه وتحمي منه, تورده موارد العدل, مستصحبة براءته الأصلية من عور المخالفة الدستورية إلا بدليل قاطع. وهو أمر يحتاج إلى بناء مؤسسي وفكري وتنظيمي رصين, ووقفة قد حان وقتها.