أهي علة في الإنسان أم قصور في النظام؟!
الدافعية للعمل الدؤوب قضية شغلت أصحاب الأعمال والمفكرين منذ القدم، فعلى مر العصور كان أصحاب الأعمال يستحثون العمال والمأجورين على استخدام معارفهم ومهاراتهم في تعظيم الناتج من العمل وبطرق مختلفة تتدرج من الجلد بالسياط إلى الإغراء بالمشاركة في العوائد، وبغض النظر أكان ذلك العمل ذهنياً أم يدوياً فصاحب العمل لا يقبل له شريكا في الوقت المخصص للعمل ولو كان بدن العامل وصحته، وقليل ما يضع معايير للحد الأقصى من العمل المنتج بيد أنه دائماً يضع حدودا دنيا للعمل المقبول، في حين أنه يضح حداً أعلى للأجر لا يمكن تجاوزه ويفتح الحدود الدنيا بالحسميات والجزاءات، ومع ازدياد الوعي الثقافي والحقوقي برزت الخلافات بين أصحاب الأعمال والعمال وتدخل في ذلك المفكرون من الاقتصاديين وعلماء الاجتماع والقانونيين وحتى الأطباء ورجال الدين. حتى باتت تلك الساحة متخمة بالنظريات والأساليب والطرق والقوانين والأحكام وإلى يومنا هذا ما زال الجدل حامياً حول فاعلية العمل.
في حديث مع أحد رجال الأعمال حول فاعلية أداء المديرين الذين يولّون مهام إدارة نشاط أو قطاع عمل، ولا يوفونه حقه من الاهتمام وبذل النشاط، يتساءل صاحبي عن علة ذلك، وحيرته تنامت مع الأيام وتجربة العمل مع عدد من المديرين على الرغم أنه كما يقول اجتهد في استكناه ما يحفز أولئك، وجرب جميع الوسائل المشروعة والمتاحة ولكنه عاد إلى ظنه الذي لا يريد أن يركن إليه وهو ''أن الإنسان لا يحب العمل المجهد إلا إذا كان تحت ضغط نفسي يجبره على ذلك لذا لابد أن يكون هناك في طبيعة العمل آلية إجهاد نفسي'' وشعرت أنه يناقشني ذلك رغبة أن أنجر إلى قبول استنتاجه.
هذا الحوار استثارني أن أكتب في موضوع الدافعية للعمل والتي يسميها مفكرو الإدارة الوجدان للعمل (work Attitude) والتي اتفق أنها الركن الثالث من الكفاية (competency) التي تشمل المعرفة والمهارة، وهي أكثر ما أستأثر بالدراسة والنقاش ضمن وسط المفكرين الإداريين وسبب ذلك أن المؤثرات في الدافعية للعمل متعددة ومتغيرة التراتبية في قوة التأثير لذات الشخص في أوقات وحالات مختلفة، وكان يظن في الماضي أن الدافعية الضعيفة للعمل سببها قصور النظام وذلك بعد أن ساد في بدايات القرن الماضي مفهوم الإدارة العلمية والتي أطلقها المهندس فردريك تيلور(Frederick w Taylor) عندما بدأ دراساته عن الحركة المقننة (Time and motion) إلا أن مدرسة العلاقات الإنسانية والتي تبلورت في النصف الأخير من القرن السابق جعلت التفكير ينصب على دراسة السلوك الإنساني تجاه العمل.
فيما أرى أن التحفيز مبني على قاعدة عقلانية مضمونها ''أن إحدى خصائص الإنسان الذهنية المؤثرة في سلوكه هي النسبية والمقارنة، فهو لا ينفك يعقد المقارنات وينسب الأشياء لبعضها ليصل إلى محصلة بها يقيس مدى اطمئنانه لكينونته ضمن الظروف المحيطة'' فكل ما من شأنه أن يساهم في زيادة تلك الطمأنينة فهو حافز له على البذل وكلما شعر أن ذلك العطاء والبذل لا يؤثر في مدى طمأنينته بات أقل بذلا، ويحدث هذا النشاط الذهني لدى الإنسان بصورة لا إرادية بل إنه يحدث بصورة قسرية فلو أراد أن يخالف ذلك لما استمر ولتغلب عليه الملل وربما تأثرت بذلك صحته النفسية والبدنية. هذا النشاط الذهني عبر عنه بصور مختلفة كثير من المفكرين فأبراهام ماسلو (Abraham Maslow) وضع نظرية متدرجة الاحتياجات (Thehierarchy of needs) ليبرر أن الدافعية للعمل تأتي من ضغط الحاجات الخمس والتي درجها من الدنيا الحاجة البدنية وصعودا بالحاجة للأمن ثم تليها الحاجة للمجتمع وتليها الحاجة للاعتداد بالذات وآخرها الحاجة لتحقيق التطلعات، وكون نوع وقيمة الحافز يحدث من ضغط الحاجة التي تلم بالإنسان .أما فردريك هرزبرج (Fredrick Herzberg) فقد قسم العوامل المؤثرة في التحفيز إلى قسمين، قسم سماه المحفزات وهي تلك التي تسمح للعامل بالتأثير في طبيعة العمل ليطور قدرته ويستعرض قدراته، وقسم سماه المحبطات وهو ما يحفز العاملين على تجنبها، ثم أتى بعد ذلك دوجلاس ماكروجر (Douglas McGregor) واللتين اعتمد على مفاهيم ماسلو وقدم نظريتيه المشهورتين (Theory X and Theory Y) والتي مضمونهما ''أن المدير الموسوم بـx هو الذي يرى أن العامل كسول بطبعه ويؤثر العمل بالحد الأدنى ليضمن بقاءه في العمل، لن يكون قادرا على تحفيز مرؤسية إلا من خلال انتزاع شعورهم بذلك الضمان، في حين أن المدير الموسوم بـ Yهو الذي يرى أن العامل خلاق ومبدع متى أتيحت له فرصة إبداء ذلك، فسيكون قادراُ على حفز مرؤوسية بتوفير الظروف التي تمنحهم ذلك ''بعد ذلك توالت النظريات والتي أغلبها اعتمد على توسيع أو إعادة صياغة نظرية ماسلو كما في عمل كل من كلايتون الدرفر (Clayton Alderfer) وديفيد مكللان (David McClelland)، غير أن جون ستيسي آدمز (J. Stacy Adams) قدم نظريته التي تقوم على مفهوم العدالة المستوعبة فالعامل يستوعب مدى العدالة فيما يحصل عليه وما يبذله وبناء على ذلك يحدث التحفيز عند إشعاره بالعدالة، وهناك نظرية لبرخص فردرك سكنر (B. F. Skinner) والتي سميت نظرية تعزيز السلوك حيث وضع أربعة معززات للسلوك هي التعزيز الإيجابي تشجيع السلوك بحمده والتعزيز السلبي بتشجيع السلوك بمنع النقد والعقاب بقمع السلوك بالنقد والإفناء حيث يفنى السلوك عندما لا تكون هناك استجابة. ومع هذه النظريات التي اشتهرت عندما بدأت مدرسة العلاقات الإنسانية تأخذ دورها في التأثير على واقع العمل انطلقت نظريات أخرى وأساليب حفز جديدة ومع ذلك مازال الجدال محتدما حول عنصرين أساسيين الأول هو العدالة في تقسيم العائد من تضافر رأس المال وعوامل الإنتاج من نظم وقدرات والعامل الإنساني مما جعل عملية الذاتية (Automation) تضيف تحديات جديدة لهذا الموضوع، والعنصر الثاني هو الانقسام بين عناصر العاملين إلى الإدارة التوجيهية والتي تتولى مهاما فكرية والقوة العاملة والتي تتولى مهاما تحويلية وتصنيعية مما جعل الفئة الأولى تستأثر بالعوائد الأكبر لقربها من سلطة تقسيم العوائد على حساب الفئة الثانية. لذا نجد أن نظرية العدالة المستوعبة تحضر بقوة في هذا الواقع. لذا على كل صاحب عمل ينشد الاستقرار للكفاءات التي تعمل لديه أن يعير عملية العدالة الداخلية بين مكونات الإنتاج ومنها العنصر البشري من حيث توزيع العوائد والعدالة بين مكونات الهيكلية التنظيمية وأن يستشعر التنافسية الخارجية فالمنافسين لا يتنافسون على الأسواق فقط بل هم يتنافسون أكثر على الموارد وخصوصاً تلك التي تمنحهم تفوقا نوعيا على منافسيهم ويأتي في قمة تلك الموارد العنصر البشري.