ملاحظات حول موجة التطرف والإرهاب الجديدة

يبدو واضحاً من الوقائع ومن البيانات والتقارير الأمنية الرسمية الأمريكية والغربية ومن الدراسات الجادة في ذلك المجال، أن تنظيم "قاعدة الجهاد" الذي يقوده أسامة بن لادن والذي يتم الترويج الإعلامي له باعتباره المصدر الرئيسي للتهديدات الإرهابية على مستوى العالم، لم يعد له وجود فعال في أي منطقة من العالم خارج حدود أفغانستان وباكستان وبعض مناطق آسيا الوسطى القريبة منهما. وتؤكد تلك المصادر نفسها أن هذا التنظيم فقد معظم قياداته العليا بالقتل أو الاعتقال ولم تعد لديه أي قدرات حقيقية للاتصال بأي عناصر تابعة له أو متعاطفة معه خارج المناطق المحاصر فيها الآن من جانب عشرات الآلاف من القوات المسلحة والأمنية الأمريكية والغربية والحليفة. في الوقت نفسه، فإنه يبدو واضحاً أيضاً مدى شيوع أفكار القاعدة في كثير من مناطق العالم، وبخاصة الإسلامي، لتجذب العديد من الجماعات والأفراد إليها وتتحول إلى "نموذج" سعى بعض من هؤلاء إلى محاكاته في الدول والمجتمعات التي يوجدون فيها وبحسب الإمكانيات المحلية المتوافرة لهم، في الحرب التي يخوضونها من جانبهم ضد من يرون أنه عدوهم مجسداً في التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة.
وفي غمار تلك الحرب التي تشنها تلك المجموعات والجماعات الدائرة في فلك نموذج القاعدة، بدا واضحاً أيضاً أن استهدافها هذا التحالف الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة لم يعني على الإطلاق وقوع غالبية عملياتهم الإرهابية بداخل أراضي دول ذلك التحالف. ففي خلال السنوات الأربع الماضية التي تلت أحداث أيلول (سبتمبر) لم تقع سوى عمليتين إرهابيتين في دول غربية هما تفجيرات قطارات مدريد ولندن في آذار (مارس) 2004 وتموز (يوليو) 2005، بينما تركزت العمليات الموجهة أساساً ضد غربيين ومصالح غربية في دول العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى المغرب وتركزت أكثر في دول العالم العربي وبخاصة في منطقتي الخليج والمشرق العربي. وأوضحت تفاصيل تلك العمليات الإرهابية والتحقيقات الرسمية التي أجريت حول معظمها أنه لا صلة ربطت بين القائمين بها في كل بلد أو منطقة مع من قاموا بعمليات مشابهة لها في بلدان ومناطق أخرى بعيدة عنها، وأنه لا صلة ربطت بين كل هؤلاء وتنظيم قاعدة الجهاد في أفغانستان وباكستان. وبذلك بدا شبه مؤكد أن مصدر التهديد الإرهابي الذي يواجهه العالم لا يتخذ شكل التنظيم أو الجيش الواحد ذي القيادة المركزية القادرة على تحريك قواتها عبر العالم بتخطيط مسبق، بقدر ما بدا أنه يتسم بقدر كبير من العشوائية والتفتت واختلاف القدرات والإمكانيات بصورة كبيرة من منطقة إلى أخرى من مناطق العالم.
كما تؤكد الملاحظة المدققة لهذه الجماعات والتنظيمات "القاعدية" التفكير، أنها باتت مرتبطة بأفكار المدرسة السلفية الجهادية ذات الطابع الدولي أكثر من ارتباطها بالمدرسة الجهادية المحلية التي سبق لها الشيوع في مصر والجزائر خلال التسعينيات. وبصفة عامة فقد لعبت مجموعة كبيرة من مواقع الإنترنت والمنتديات على هذه الشبكة الدور الرئيسي في توزيع أفكار تلك المدرسة وفتاواها على نطاق واسع شمل الجماعات والمجموعات والأفراد المكونين لهذه الموجة الإرهابية الجديدة. كذلك فعلى الصعيد الفكري ـ الحركي برز التأثير الحاسم لمقولات وخطب ومحاضرات وفتاوى عدد كبير من رموز هذه المدرسة وهذه الموجة على الجماعات المكونة لها، وبخاصة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري في خطبهما الأخيرة. ففي هذه الخطب بدا واضحاً مدى اختلاط "العدو البعيد"، أي القوى الأجنبية، و"العدو القريب"، أي الحكومات العربية والمسلمة، باعتبارهما هدفاً واحدا مزدوجاً يجب على المنضوين في تلك الموجة الجديدة التوجه إليه في وقت واحد. وقد بدا تأثر تلك الجماعات كبيراً بهذه الأفكار وقيامهم بتحويلها إلى سلوك عملي اتخذ شكل العمليات الإرهابية التي أصابت مواقع ومصالح حكومية وخاصة ومواطنين مسلمين في عديد من البلدان المسلمة التي تركزت فيها تلك العمليات أكثر من البلدان الغربية.
وفي سياق هذا التطرف الفكري الذي اجتاح هذه الموجة الإرهابية الجديدة ذهب بعض من الجماعات والتنظيمات المنضوية بداخلها إلى مزيد من الإيغال في التطرف والقيام بعمليات إرهابية مفرطة في العنف مثل التفجيرات العشوائية التي تستهدف أعداداً كبيرة من المدنيين والهجوم على المساجد واختطاف الرهائن وقتلهم بصور وحشية، في عديد من مناطق العالم وبصورة خاصة في العراق منذ احتلاله. ولعل العامل المركزي الذي قامت عليه تلك الممارسات الوحشية هو الانغلاق الشديد لتلك الجماعات والتنظيمات على أفكارها وتفسيراتها المتطرفة وعدم قبولها أي أفكار أو تفسيرات أخرى للنصوص الإسلامية المقدسة. وفي هذا السياق سيطر على أعضاء تلك الجماعات والتنظيمات إدراك بأنهم في حالة حرب صفرية مع كتلة واحدة من الأعداء لا فارق بين مدنييهم أو عسكرييهم ولا بين الغربيين منهم أو المسلمين، فكلهم بالنسبة لها جيش واحد يقوم كل من فيه بقتالها بحسب دوره ووظيفته في تلك الحرب المتواصلة.
الخلاصة الواضحة في هذا المجال هي أن التهديد الإرهابي الذي يتعرض له العالم اليوم لم يعد ممثلاً في تنظيم واحد محدد الملامح بل في شبكة واسعة متحركة من المجموعات والتنظيمات المتوسطة والصغيرة. كما أنه من الواضح أن النشاط الرئيسي لتلك الموجة الإرهابية الجديدة بات أكثر تركيزاً في البلدان العربية والإسلامية التي راح أكثرها تعاني من غيرها من موجة أكثر غلواً في التطرف بداخل موجة التطرف والإرهاب الجديدة نفسها. إن تلك الخلاصة تؤكد أن هناك ضرورة لمعرفة الأسباب والدوافع الكامنة وراء قدرة نموذج القاعدة على الاستنساخ بصور مختلفة في مجتمعات ودول مختلفة أيضاً. أيضاً فإن هناك ضرورة أخرى لدراسة الأسباب والعوامل الحقيقية الواقعية والفكرية التي تدفع بالجماعات المتطرفة والإرهابية إلى الجنوح نحو مزيد من التطرف والغلو سواء في أفكارها أو في ممارساتها العملية التي تتخذ شكل العمليات الإرهابية الواسعة. وبعد كل كذلك، فإن تركز عمليات الإرهاب في مناطق العالم الإسلامي وخصوصاً الجزء العربي منه يدفع إلى مزيد من البحث عن الأسباب والدوافع التي تقف وراء ذلك، ومدى ارتباط هذا التركز زمنياً وجغرافياً بالصراعات والحروب الكبيرة شهدها ذلك العالم في السنوات الأخيرة وبخاصة في العراق وأفغانستان وقبلهما فلسطين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي