غياب الدور الاجتماعي عن المؤسسات المالية

الاقتراض له من المساوئ أكثر مما له من المنافع خصوصا إذا كان الغرض من الاقتراض غير مبرر بقدر كاف, فالأغراض الاستهلاكية كثيرة ومتعددة وقد لا يستطيع الإنسان مواكبتها, لكن الإنسان تحت متطلبات الحياة المتتالية يضطر أن ينفق أكثر من دخله الشهري أو السنوي مما يجعله يقع تحت طائلة الديون ربما دون أن يدرك فرضية أن يكون القرض لأسباب وجيهة، كأن يكون للتعليم أو للعلاج في حالة عدم توافرهما في الداخل, لذا ينصح بالتفكر الجاد قبل الغرق في مصيدة القروض الشخصية, فبعد أن دأبت المؤسسات المالية والمصرفية على التركيز على عامل الربحية وتناست الدور الذي يجب أن تضطلع به تجاه تخفيف التوتر الاقتصادي والمالي في المجتمع, وهي بذلك تعتبر قد تنصلت من مسؤولياتها الاجتماعية, وازدادت الأمور سوءا مع الأزمة المالية الحالية بعد أن اتخذتها البنوك بمثابة ذريعة للتنصل ليس فقط من الالتزامات الاجتماعية بل حتى من القيام بالواجبات الاعتيادية وسيطر هاجس الخوف وعدم الثقة بالزبائن بجميع انتماءاتهم خصوصا في مسألة منح القروض, وحيث إن كل إنسان عرضة لأن يمر بأوقات عصيبة وأيام احتياج وهنا تكمن الحكمة في إعداد البرامج البديلة للتوفير خصوصا في ظل الأزمة. وكان من الواجب أن تعمل البنوك على تنمية الادخار والتشجيع عليه بعد أن مر العالم بأوقات عصيبة، واتضحت لنا مدى أهمية القرش الأبيض, لذا كان يجب أن تكون رسالة البنوك هي أن ما توفره اليوم يغنيك عن القرض غدا, لا لتقديم التسهيلات وجعلها كمصيدة في أيام الرفاه ومن ثم تنقلب أيام الشدة لتحل محلها الملاحقات القانونية, وذلك من أجل أن ينصرف هم عميل البنك إلى زيادة رصيده لا إلى نقصانه. ويجب أن تكون الثقافة المالية والاقتصادية هي في تجنب الإسراف وبناء قنوات توفير شخصية لمواجهة حالات الطوارئ التي لا يخلو منها زمن حتى يتسنى لكل إنسان مهما كان دخله أن يستقطع جزءا صغيرا منه وحفظه كوديعة بنكية، ويمكن أيضا تنمية هذه المدخرات البسيطة لتكون نواة لاستثمار كبير في حالة بقائها فترة كافية تحت تصرف البنك, وبهذا ستكون البنوك عامل توفير وفي الوقت نفسه ستكون جهة لمواجهة الطوارئ عندما يتعرض البعض لأحداث خارجة عن المخطط اليومي أو الشهري وتستوجب التزامات مالية كحالات المرض أو الحوادث الطارئة. الحل ليس في الاقتراض بل الصرف من المتوافر ومن صندوق الأزمات. المطلوب من البنوك إذن ألا تستغل حاجة العميل لتحميله قروضا لا قبل له بسدادها في المستقبل, وحيث إن سهولة الحصول على القرض الشخصي قد دفعت الكثيرين للحصول عليه بسهولة لكنها كانت مجرد إغراء وقتي، بينما كانت الاستفادة منه محدودة لأن أغلب المقترضين صرفوا الأموال على سلع استهلاكية أو في استهلاك تفاخري كشراء سيارة فارهة أو تغيير أثاث المنزل أو ربما السياحة والسفر, وذلك عبر قرض من البنك امتد إلى مدى عمر الأثاث أو السيارة مما جعله مالا ضائعا في النهاية لأن العائد له بقي عائدا استهلاكيا.
إن ما يدعو للأسى هو أن البنوك التجارية قد سعت جاهدة لوضع حقوقها فوق كل اعتبار, ذلك أن شروط القروض الشخصية قد وضعت بما يتناسب مع ضمان البنك لحقوقه، فالبنك لم يقدم القرض إلا للشخص الذي يعلم أن دخله معلوم وثابت وعليه سلطة إطلاع وسلطة اقتطاع كافيتان, كما أن البنوك عادة ما تقدم القرض بعد أن تحسم منه الفوائد المنتظرة التي يتم الاتفاق عليها مسبقا، أي أن مبلغ القرض الذي يقدم للمقترض ليس المبلغ الفعلي المتفق عليه بل هو أقل من ذلك. وفي حالة كون هذه القروض قصيرة الأجل ولم تتعد السنوات الثلاث أو الأربع فإن مثل هذه القروض تكون مرهقة بصورة أكبر لأن ذلك يرفع مبلغ القسط الشهري المقتطع من دخل المقترض، فقد يتم خصم ما يقرب من ربع أو ثلث الراتب مقابل القرض مما يجعل المقترض يعيش في فترة تقشف أو في فترة حرجة طيلة سنوات القرض. وإذا صادفت أزمة كالأزمة الحالية ستكون فترة ابتلاء مالية حقيقية, في الجانب الآخر على الشركات التي تعمل في نشاط تحصيل الديون نيابة عن الغير أن تعيد تنظيم هذا النشاط والنظر في القوانين التي تحكم علاقته مع مختلف الأطراف، فأهمية هذه الشركات يجب أن يكون في تخفيف الضغط على الجهات الأمنية الرسمية والمحاكم القضائية عن طريق حل النزاعات المالية بين الدائن والمدين بالطرق الودية والحيلولة دون اللجوء إلى القضاء, كما أن عدم وجود تنظيمات تعطي شركات تحصيل الديون حق الدخول إلى الحسابات الشخصية سواء للأفراد أو الشركات المدينة وعدم وجود شركة مخاطر للأفراد والشركات يستطيع من خلالها المستثمرون الحصول على معلومات حول الأشخاص المدينين يعد من أبرز الصعوبات التي تحتاج إلى تكاتف الجهات المعنية لتذليها. لذلك فإن الجهات الرسمية مطالبة بأن توفر الليونة الكافية للعاملين في هذا النشاط حتى يتسنى لهم العمل بسهولة، خصوصا أن الهدف من تأسيس وإنشاء شركات تحصيل الديون هو الوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف ويقلل من المشكلات العالقة بينهم, لنأخذ العبرة من شركات تحصيل الديون في الدول الأجنبية وتكافلها حيث يجب أن يكون مجتمعنا الإسلامي قد سبقها. علاوة على ذلك فهي تعمل تحت مظلة قانونية تمكنها من الدخول في الحساب الشخصي سواء للأفراد أو الشركات المدينة، الأمر الذي ساعدها على تأدية مهامها بطريقة أسهل فهناك أهمية في الوقت الراهن لأن تتعاون المؤسسات المالية فيما بينها بشكل أكبر لتبادل المعلومات حول الأشخاص والشركات. الشركات التي تقوم بدورها في تحصيل الديون ومتابعتها لإرجاع الحقوق لأصحابها وذلك من خلال عمليات المفاوضة المقامة بين الدائن والمدين والوصول بالتالي إلى تسوية سلمية دون اللجوء إلى المحاكم القضائية في حين يتم تحويل القضايا إلى المحاكم إذا لم تحل بشكل ودي. لقد تخطت حركة القروض الفردية والشخصية في منطقتنا حجم القروض الصناعية أو قروض الأعمال الإنتاجية بعدما كانت قريبة منها مما يؤشر على تغلب القروض الاستهلاكية على القروض الصناعية خلال السنوات الأخيرة ويعد هذا مؤشرا لإغراق المجتمع. الأزمة الاجتماعية والمعيشية وغياب الاستقرارين الاقتصادي والاجتماعي قد عملت على تفريغ بلداننا من قدراتها المالية وطاقاتها البشرية فلا بد من الإشارة إذن إلى أن حركة الاقتراض والتسليف يجب أن تنتقل إلى حركة اعتراضية ومطلبية دفاعاً عن الاستقرارين الاقتصادي والاجتماعي وذلك انطــلاقاً من السعي إلى تسهيلات تتحملها المؤسسات المالية وليس المقترضين, قد يقول البعض إنها بنوك وليست جمعيات خيرية لكن فلتنظر هذه البنوك إلى حجم الأزمات المالية والديون المشكوك في تحصيلها والديون المعدومة وهي تعد بمبالغ خيالية مع جهات مختلفة أجنبية وهو مال ضائع لا نعرف مصيره, أليس من الأولى أن يضخ جزء يسير منه يخدم المواطنين ومن ضاقت بهم السبل؟ لماذا إذن لا تقوم البنوك بإعداد دراسة بأوضاع الأسر المحلية لكل مجتمع والتي عادة ما تكون محتاجة لهذه المبالغ من الديون الصغيرة وأن تقدم خدمة اجتماعية وإنسانية تلغي فيها الديون عن بعض عملائها في المناسبات الدينية مثلا أو الأعياد بعد دراسة أحقيتهم واحتياجاتهم؟! هذه المبالغ لن تشكل لها شيئا كثيرا لكنها ستدفع باتجاه التقدم والاستقرار الاجتماعيين وتعزز من سمعتها أيضا كما ستبعد عن العمل المصرفي فكرة الاستغلالية والذاتية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي