الاستثمار الزراعي في الخارج.. مصدر للأمن المائي والغذائي

حظي القطاع الزراعي في المملكة العربية السعودية على امتداد أكثر من ثلاثة عقود مضت من الزمان، باهتمام منقطع النظير من قبل الحكومة السعودية، باعتباره لاعبا رئيسا في مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها المملكة، ولكونه مسؤولا مسؤولية مباشرة، عن تحقيق الأمن الغذائي للمملكة ومواطنيها، وتنويع القاعدة الاقتصادية، وتوفير فرص العمل، وتعزيز التنمية المستدامة في مدن ومناطق المملكة المختلفة.
اهتمام الحكومة السعودية بتنمية القطاع الزراعي، تجسد في استمرارها في تقديم الدعم المالي واللوجستي والفني، للقطاع وللعاملين فيه، عبر خطط التنمية الخمسية المتعاقبة للمملكة، حيث بلغ على سبيل المثال معدل القروض الممنوحة للقطاع خلال خطة التنمية السابعة، نحو 1.16 مليار ريال سنوياً، وهو ما يعادل نحو ضعف ما تم تقديمه خلال خطة التنمية السادسة، وهذا الاهتمام قد حقق للمملكة الاكتفاء الذاتي في عدد من السلع الغذائية المهمة، مثل الألبان، والدواجن بشقيها اللاحم والبيَّاض، بما في ذلك في عدد من أنواع الخضراوات والفواكه.
خلال خطة التنمية السابعة، شهدت المساحات المحصولية المتاحة للإنتاج في المملكة انخفاضا بلغ نحو 6,4 في المائة، تماشياً مع استراتيجية عامة للمملكة، استهدفت ترشيد الزراعة كثيفة الاستهلاك للمياه، مثال زراعة الحبوب والأعلاف، بحيث يكون التركيز على زراعة المحاصيل، التي تتمتع بكفاءة عالية بالنسبة لاستخدامات المياه، مثال الخضراوات والفواكه، وتبعاً لذلك فقد انخفضت مساحة محاصيل الأعلاف بنسبة 22,3 في المائة ومساحة الحبوب بنسبة 8,5 في المائة، بينما ارتفعت مساحة الخضراوات بنسبة 26,1 في المائة، لتشكل بذلك نسبة 10,1 في المائة من إجمالي المساحة المحصولية.
توجه الحكومة السعودية، بترشيد الزراعة كثيفة الاستهلاك للمياه، كان توجها في محله، ولاسيما حين النظر والأخذ في الحسبان، أن القطاع الزراعي في المملكة حتى وقت قريب كان يستهلك نحو 18,7 مليار متر مكعب من المياه، أو ما يعادل نحو 89 في المائة من إجمالي الطلب على الماء في السعودية، الذي يقدر بنحو 21 مليار متر مكعب، كما أن الاستمرار في زراعة محاصيل وسلع غذائية لا تتوافق مع البيئة الجغرافية والمناخية في السعودية، قد تسبب في الإضرار بالتركيبة العضوية للتربة الزراعية، وضاعف من تكاليف الإنتاج، وخاصة أن السعودية، تعتبر من بين أعلى الدول على مستوى العالم من حيث تكلفة إنتاج المياه مقارنة بأسعار توفيرها للمستهلك.
ترشيد زراعة المحاصيل عالية الاستهلاك للمياه، وإعادة تشكيل المحاصيل الزراعية من خلال التوجه نحو زراعة المحاصيل الزراعية ذات الكفاءة المائية العالية، استلزم التفكير في إيجاد بديل لتأمين المحاصيل الزراعية اللازمة لاستهلاك المملكة، التي لا تتناسب ولا تتوافق مع الطبيعة الجغرافية ولا مع البيئة المناخية للسعودية، خصوصاً بالنسبة لمحاصيل زراعية معينة، مثال الأرز والقمح والشعير والذرة والأعلاف الخضراء والسكر والحبوب. ومن هذا المنطلق برزت فكرة مبادرة الملك عبد الله للاستثمار الزراعي السعودي في الخارج، التي تستهدف المساهمة الفاعلة في تحقيق الأمن الغذائي الوطني والعالمي، وبناء شراكات تكاملية مع عدد من الدول في شتى أنحاء العالم، وعلى وجه الخصوص مع الدول، التي تتمتع بمقومات وتمتلك إمكانات زراعية عالية في مجال تنمية وإدارة الاستثمارات الزراعية في عدد من المحاصيل الزراعية الاستراتيجية، بكميات وأسعار مستقرة، إضافة إلى ضمان استدامتها، هذا ويتم اتخاذ قرار الاستثمار الزراعي في الخارج، وفقا لمبادئ ومعايير استثمارية زراعية محددة، تكفل في مجملها أن يتحقق الاستثمار في دول جاذبة استثمارياً من حيث توافر الموارد الزراعية الواعدة، والأنظمة والحوافز الإدارية والحكومية المشجعة على الاستثمار.
تجدر الإشارة إلى أن عددا من قادة الدول المستهدفة للاستثمار الزراعي السعودي في الخارج، مثال تركيا ومصر وأوكرانيا والسودان وكازاخستان والفلبين وفيتنام والجمهورية الإثيوبية، قد رحبوا بمبادرة الملك عبد الله للاستثمار الزراعي السعودي في الخارج، ومنحوا المستثمرين السعوديين تبعاً لذلك العديد من التسهيلات، كالأراضي الزراعية والتسهيلات الأخرى المصاحبة، هذا وقد بدأ بالفعل أحد المستثمرين السعوديين وهو الأستاذ محمد حسين العمودي في جني ثمرة مبادرة الملك عبد الله للاستثمار الزراعي السعودي في الخارج، بالبدء الفعلي في الاستثمار والزراعة في الخارج بإنتاج سلعة غذائية أساسية وهي الأرز في أثيوبيا، والتي قد حصد محصولها في وقت سابق.
بهدف إنجاح جهود الحكومة السعودية الرامية لتشجيع القطاع الخاص للاستثمار الزراعي في الخارج وفق المعايير الاستثمارية، التي تضمنتها مبادرة الملك عبد الله للاستثمار الزراعي السعودي في الخارج، أعلنت الحكومة أخيرا تأسيس «الشركة السعودية للاستثمار الزراعي والإنتاج الحيواني»، برأسمال قدره ثلاثة مليارات ريال، التي ستعمل في مجال الاستثمار الزراعي وفق معايير اقتصادية واستثمارية، تتوافق تماما مع مبادرة الملك عبد الله للاستثمار الزراعي السعودي في الخارج وبمشاركة القطاع الخاص السعودي.
رغم الإيجابيات العديدة للاستثمار الزراعي السعودي في الخارج، إلا أن البعض لديه بعض التوجس والتخوف ويشوب فكره بعض المحاذير، بأن يكون توجه الاستثمار الزراعي في الخارج، على حساب وبديلاً عن الاستثمار الزراعي في الداخل، ولكن في اعتقادي أن هذا التخوف وهذا التحفظ ليس في محله، لكون الاستثمار الزراعي السعودي في الخارج سيكون موجهاً في المقام الأول نحو السلع والمحاصيل الزراعية، التي وكما أسلفت لا تتناسب طبيعة وأسلوب زراعتها مع المناخ والطبيعة التضاريسية للمملكة العربية السعودية، الأمر الذي أكد عليه الدكتور عبد الله العبيد وكيل وزارة الزراعة في ندوة اقتصادية في جريدة «الجزيرة» حول مبادرة الملك عبد الله للاستثمار الزراعي السعودي في الخارج، عندما أشار إلى المبادرة بأنها مكملة للجهود، التي تقوم بها الدولة في دعم القطاع الزراعي المحلي وليست بديلاً له على الإطلاق، الأمر الذي يؤكده أن الدولة لا تزال مهتمة بالقطاع الزراعي، بإصدارها قرارا بتغيير اسم البنك الزراعي إلى صندوق التنمية الزراعية وزيادة رأسماله من 12 مليار ريال إلى 20 ملياراً.
خلاصة القول، إن مبادرة الملك عبد الله للاستثمار الزراعي السعودي في الخارج، قد تزامن إقرارها في ظروف مواتية للغاية، ولاسيما أن العالم يشهد ارتفاعا غير مسبوق في أسعار السلع الزراعية وندرة في توافر المحاصيل الزراعية الأساسية. ومن هذا المنطلق فإن المبادرة يتوقع لها أن تسهم بفعالية في تحقيق الأمن الغذائي المنشود للمملكة ومواطنيها، وبالذات بالنسبة للسلع والمحاصيل الزراعية التي لا تتناسب ظروف زراعتها مع بيئة ومناخ السعودية، مما سيحقق لنا استمرارية توافر ذلك النوع من السلع والمحاصيل الزراعية بكميات وفيرة وأسعار معقولة، وسيحافظ لنا في الوقت نفسه على الموارد المائية من التبديد والضياع، والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي