كيف أسهمت الخطط الخمسية للصين في رسم مسارها الاقتصادي؟
كيف أسهمت الخطط الخمسية للصين في رسم مسارها الاقتصادي؟
رغم تخلي الصين عن الاقتصاد الموجه مركزيا منذ عقود، فإن خططها الخمسية المتتالية ظلت ركيزة أساسية في صنع سياسات اقتصادها الكلي.
قدّمت صحيفة "ساوث تشاينا مورنينج بوست" لمحة ميسرة عن الخطط السابقة، التي تغطي أكثر من 7 عقود من التحولات السياسية. فبكين استطاعت، من خلال تنفيذ الخطط الـ14 التي طُبّقت منذ 1953، أن تُحوّل قدراتها الصناعية المحدودة إلى إنتاج ضخم، ما قلدها لقب "مصنع العالم".
تسعى الدولة الآن إلى الارتقاء بسلاسل القيمة، وأن تصبح مركزًا عالميًا للابتكار في القطاعات المتقدمة، ومن المتوقع أن تُشكّل الخطة المقبلة، الخامسة عشرة، دورا مهما من هذا التحول.
الخطة الخمسية الأولى: صعود الصناعة الثقيلة
عندما تأسست جمهورية الصين الشعبية عام 1949، لم تكن البلاد قادرة على مواصلة التصنيع إلا بشكل متقطع جراء الصراعات والعزلة عن الدول الغربية والتوترات الأيديولوجية للحرب الباردة. في الخطة الخمسية الأولى التي طبقت عام 1953، كانت الأولوية القصوى "تعبئة كل الموارد" لبناء "156 مشروعًا صناعيًا" كبيرًا، مثل المناجم، ومحطات الطاقة، ومصانع الصلب، بمساعدة من الاتحاد السوفييتي.
وشكّل الاستثمار في هذه المشاريع الصناعية 58.2% من إجمالي الاستثمار، وارتفعت نسبة الصناعات الثقيلة إلى 45% من الناتج الصناعي بنهاية الخطة، مقارنة بـ35.5% عام 1952. وشهدت هذه المرحلة تأسيس أول مصنع للسيارات في مدينة تشانجتشون، الذي أصبح جزءاً من مجموعة "فاو" الحالية. كما أعيد تنظيم شركة أنجانج ستيل، ثالث أكبر منتج للصلب في العالم، لتكون مملوكة للدولة تحت مظلة وزارة الصناعة الثقيلة، وبدأت تطورات مبكرة في مصنع بكين للأنابيب الإلكترونية، الذي تطور لاحقاً إلى مجموعة "بي أو إي"، أحد موردي شركة "أبل".
الخطة الخمسية السابعة: قفزة تكنولوجية
في عام 1986، أطلقت الصين مبادرة تُعرف بـ"برنامج 863"، بهدف تحقيق ابتكارات تكنولوجية، وقد أُدرج هذا البرنامج في 6 خطط خمسية متتالية. ركّز على مجالات التكنولوجيا الحيوية، والفضاء، وتكنولوجيا المعلومات، والدفاع، والطاقة، والمواد الجديدة، واستُوحي من "مبادرة الدفاع الإستراتيجي" الأمريكية.
أسفر البرنامج عن تطوير منتجات مهمة مثل مركبة الفضاء "شنتشو"، والغواصة "جياولونج"، وأجهزة الحاسوب العملاقة "تيانخه-1" و"تيانخه-2"، والمعالج الدقيق "لونجسون".
الخطة الخمسية التاسعة: التعامل مع الأزمة المالية الآسيوية
أطلقت الخطة التاسعة عام 1996، مستهدفة نموًا سنويًا في الناتج المحلي الإجمالي 8%، وهو أقل من الخطط السابقة بسبب مخاوف من التضخم. لكن الأزمة المالية الآسيوية عام 1997 أضعفت الصادرات، ما دفع الحكومة لتشجيع الطلب المحلي عبر خفض أسعار الفائدة وإصدار السندات.
كتب ين جون، الأستاذ المشارك في جامعة بكين، في كتابه "خطة الصين للتنمية الاقتصادية والاجتماعية": "أدركت الحكومة المركزية أنه لتحقيق أهداف الخطة الخمسية التاسعة، يجب أن تتجه السياسات نحو الحيلولة دون فقد الاقتصاد زخمه، في ظل ضعف الطلب المحلي والخارجي".
أدخلت الحكومة "أسابيع ذهبية" في 1999، مثل عطلات رأس السنة الصينية، ويوم العمال، واليوم الوطني، ما عزز من الاستهلاك المحلي. ونمت الاقتصاد الصيني 8.3% سنويًا بين 1996 و 2000، مقارنة بمتوسط عالمي بلغ 3.8 %، وبلغ نصيب الفرد من الدخل 800 دولار بحلول 1998، ودخلت البلاد بذلك مصاف الاقتصادات متوسطة الدخل.
الخطة الخمسية العاشرة: الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية
مع استعداد الصين للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية بين 2001 و2005، تبنت الخطة العاشرة إستراتيجية "الانطلاق نحو الخارج"، لدعم الاستثمارات الخارجية في القطاعات التي تتمتع فيها الصين بميزة نسبية. وشجعت الشركات الصينية على إنشاء مراكز أبحاث بالخارج والتوسع عالميًا.
وبفضل هذه السياسات، ارتفع الاستثمار الخارجي من 6.9 مليار دولار عام 2001 إلى 12.26 مليار دولار عام 2005، ليصل لاحقًا إلى 162,8 مليار دولار في 2024. ومن أبرز عمليات التوسع، استحواذ شركة تي سي إل على "شنايدر" الألمانية للإلكترونيات عام 2002، واستحواذ "لينوفو" على قسم الحواسيب من "آي بي إم" عام 2005.
الخطة الخمسية الرابعة عشرة: أولوية الابتكار
في مؤتمر صحافي في يوليو، صرح رئيس لجنة التنمية والإصلاح الوطنية -أعلى جهة تخطيط اقتصادي في البلاد والهيئة المسؤولة عن صياغة الخطة الخمسية- تشنج شانجيه، أن الخطة الرابعة عشرة (2021-2025) "وضعت الابتكار على رأس الأولويات". بعد الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة في ولاية الرئيس دونالد ترمب الأولى، وفرض قيود على تصدير الرقائق وأشباه الموصلات، ركزت الصين على تحقيق الاكتفاء الذاتي.
تعزز الخطة الابتكار الأصيل في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، وعلوم الأعصاب، والفضاء. كما تدعو إلى تعزيز الصناعات الناشئة مثل التكنولوجيا الحيوية والمركبات الكهربائية، والتخطيط الاستراتيجي لصناعات المستقبل مثل تكنولوجيا الجينات وتخزين الطاقة.
ونتيجة لهذه المساعي، أصبحت الصين أكثر اكتفاء في التكنولوجيا الأساسية مثل الرقائق، وبرزت بصفتها مركزا عالميا للابتكار في قطاعات متقدمة مثل الروبوتات الشبيهة بالبشر.