نظرية الأواني المستطرقة .. سعودة موسم الرياض على طريقة كوريا الجنوبية
بعد هدوء العاصفة، وتوجه السعودية إلى "سعودة موسم الرياض" تؤكد المملكة أنها تمتلك بالفعل قاعدة مواهب كافية قادرة على تلبية متطلبات موسم بحجم موسم الرياض، الذي استقطب أكثر من 20 مليون زائر في 2024 وجعل منه أكبر مهرجان في الشرق الأوسط.
فبينما يعكس القرار توجهًا واضحًا نحو توطين صناعة الترفيه وتعزيز الحضور المحلي والخليجي على خشبات المسارح وأمام الجماهير، فإنه يفتح أيضًا باب النقاش حول مدى جاهزية البنية الإبداعية، ومستوى التدريب، وقدرة الإنتاج المحلي على الابتكار والاستدامة، في ظل منافسة عالمية على جذب الجمهور وتقديم تجارب نوعية.
"سعودة" موسم الرياض، كما وصف البعض تلك الخطوة بعد إعلان القرار، جاءت لصالح قطاع الفن والثقافة السعودي بعد إطلاق رؤية 2030 التي استهدفت جعل الثقافة نمط حياة ومصدر فخر وطني لتعزيز مكانة السعودية على الخريطة العالمية من ناحية، ومن ناحية أخرى عملت على تحويل الفنون إلى رافد اقتصادي قادر على خلق فرص عمل وتنمية مواهب، إضافة إلى عوائد اقتصادية كبيرة.
إذا عدنا بالذاكرة إلى الخلف قليلا، فسنجد أن المملكة استثمرت في مواهبها البشرية واستغلت تراثها الحضاري العتيق، فأسست في عام 2018 وزارة الثقافة لتكون ذراع الدولة في تحقيق رؤيتها، وفي نفس العام افتتحت أول دار سينما بعد غياب استمر 35 عاما، كما شهد عام 2020 تأسيس هيئة الأفلام وهيئة الفنون والعمارة والتصميم، بينما شهد 2024 تأسيس أول أوبرا سعودية وهي "زرقاء اليمامة" التي عرضت للمرة الأولى على مسرح الملك فهد الثقافي في الرياض.
بالتوازي أطلقت السعودية عدة مواسم ومهرجانات فنية كجزء أساسي من الاستثمار في الفن، فظهر موسم الرياض لأول مرة عام 2019 كما ظهر موسم جدة في نفس التوقيت، وتضمن الموسمان عروضا فنية عالمية وحضور أبرز نجوم السينما مثل جون ترافولتا وكلود فاندام وأنتوني هوبكنز، ما وفّر للفنانين السعوديين فرصة كبيرة للاحتكاك والاستفادة من الخبرات الهوليوودية، كذلك مهرجان البحر الأحمر الذي أقيمت نسخته الأولى في 2021 واستقطب أكثر من 130 فيلما من 60 دولة، كما حضره 10 آلاف ضيف وصانع أفلام من مختلف أنحاء العالم، وجسد نافذة لاكتشاف وتطوير مواهب سينمائية سعودية عبر برامج تمويل ودعم وصلت إلى 10 ملايين دولار في الوقت الحالي.
في مقارنة معيارية عالميا، نفذت كوريا الجنوبية إستراتيجية مشابهة بعد الأزمة الآسيوية الاقتصادية 1997، وآنذاك أدركت الحكومة الكورية أهمية تنويع مصادر دخلها وأطلقت خططا استثمارية وطنية في الصناعات الثقافية مثل الدراما والسينما والموسيقى، وخصصت لها ميزانيات ضخمة كما شيدت مؤسسات ثقافية لتنفيذ كل ذلك، وبعد نحو عقدين أصبح هناك ما بات يعرف بـ"المد الكوري" والمقصود به التأثير الجارف للفن الكوري في العالم، ففرقة مثل "بي تي إس" الكورية صارت الأشهر عالميًا وفرقة الفتيات "بلاك بينك" هي أول فرقة تصل إلى مليار مشاهدة عبر يوتيوب، ووفقًا لوزارة الثقافة الكورية فإن صادرات الصناعات الثقافية وصلت قيمتها 13 مليار دولار، بينما بلغت إيرادات الموسيقى الكورية الجنوبية المعروفة بـ"الكيبوب" 5.8 مليار دولار سنويًا، غير الإيرادات غير المباشرة المتمثلة في زيادة عدد السياح الراغبين في التعرف أكثر على تلك الثقافة.
السعودية قريبة من تحقيق هذا النجاح، لكن في فترة أقل، إذا سجلت المملكة طفرة على مختلف المستويات فوصلت أفلامها إلى المهرجانات العالمية مثل فيلم "المرشحة المثالية" الذي عرض في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي 2019 كأول فيلم سعودي يشارك في المسابقة الرسمية، كذلك فيلم "نور شمس" الذي عرض في مهرجان كان السينمائي 2024، أما الطرب السعودي فأضحى سفيرا ثقافيا للمملكة بعد أن أقام نجوم المملكة حفلاتهم في باريس ولندن ونيويورك، بجانب ما يحظون به من مشاهدات مليونية عبر المنصات.
تطبيقًا لنظرية الأواني المستطرقة، تضاعفت القوة الناعمة السعودية وتعززت مكانة المملكة كوجهة أولى للفن والثقافة في الشرق الأوسط، فمنها يظهر النجوم العالميون وتقام المهرجانات الفنية وتصنع وتعرض أشهر الأفلام، هذا انعكس اقتصاديًا على القطاع الثقافي الذي وفّر 216 ألف وظيفة في أنشطة الفنون والإبداع عام 2023، بجانب ارتفاع مساهمته في الناتج المحلي إلى 0.87% بعد أن كانت لا تتجاوز 0.2% بحسب تصريحات الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي في حواره لـ"الاقتصادية".
القطاع الفني والسينمائي كان له نصيب كبير في النمو والمساهمة أيضًا، بعد أن وصل عدد دور السينما إلى 66 دارا تحتوي على 618 شاشة عرض في 22 مدينة، وفقًا لهيئة الأفلام السعودية، بينما بلغت الإيرادات 845.6 ريال عام 2024 ووصلت قيمة السوق السينمائية عموما إلى 2.2 مليار ريال، ومن المتوقع أن ترتفع بنسبة 9% سنويًا حتى عام 2030.
المعطيات السابقة توضح أن تقديم موسم الرياض بنسخة سعودية شبه كاملة ليس فقط خطوة نحو "السعودة"، بل تحد اختاره المستشار تركي آل الشيخ لإظهار ما وصلت إليه المواهب السعودية التي شكلت حتى الآن أكثر من 38 فرقة مسرحية و100 منظمة مسرحية غير ربحية وكذلك 60 فرقة غنائية لتقديم كافة ألوان الغناء السعودي، وهؤلاء هم الرهان الحقيقي لتجاوز الفن السعودي حدوده الشرق أوسطية من خلال مهرجان يأتيه ملايين الزوار من مختلف أنحاء العالم.