العملات المشفرة من أداة مضاربة إلى ركن لتمويل المشاريع

لم يكن يدرك "ساتوشي ناكاموتو" الشخصية الاعتبارية في 2008 أن الرمز الرقمي الذي ابتكره، والمعروف اليوم باسم البيتكوين، سيصبح في غضون سنوات قليلة محور اهتمام الأسواق المالية العالمية. فقد نمت هذه الأصول الرقمية، التي كانت شبه معدومة القيمة عند نشأتها، لتصبح اليوم منافساً لاقتصادات دول بأكملها، ومصدرًا لثروات غير مسبوقة، مدفوعًا بزخم غير تقليدي ناتج عن التصدعات الاقتصادية والجيوسياسية الدولية، مثل الصدمات التجارية والرسوم الجمركية بين القوى الكبرى في الاقتصاد العالمي، بجانب التوترات الجيوسياسية المنتشرة من الشرق الأوسط إلى أوروبا وصولًا إلى آسيا.

ارتفاع البيتكوين 26% منذ بداية 2025 جعلها من بين الأصول الأكثر ربحية، واشتدت منافستها مع أكبر الملاذات التقليدية الآمنة كالذهب والفضة. وقد كان هذا الارتفاع جزءًا من موجة كبرى بدأت مع جائحة كورونا، حيث انهارت أسواق الأسهم، وتراجعت عوائد السندات مع خفض الفائدة، فقد تجاوزت القيمة السوقية للعملات المشفرة في يوليو 2025 حاجز 4 تريليونات دولار، مدعومة بإقبال بالطلب المتنامي من المستثمرين، إضافة إلى التطورات التنظيمية التي أضفت مزيدًا من الشرعية على القطاع، بجانب الدعم الكبير الموجه للقطاع من المؤسسات الاقتصادية الرسمية في كثير من الدول وبالأخص الولايات المتحدة.

في يناير 2024، شهدت العملات المشفرة تحولاً تاريخياً عندما أقرت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية بدء التداول في صناديق متداولة تستثمر مباشرة في البيتكوين. هذه الخطوة منحت القطاع قبولًا مؤسسياً غير مسبوق بعد أن كانت عرضة للهجوم المستمر من المؤسسات المالية والاقتصادية الرسمية، وبخاصة مع دخول عمالقة إدارة الأصول في وول ستريت مثل "بلاك روك" و"فيديليتي" و"إنفيسكو" على الخط لضخ الأموال في تلك الصناديق.

قبل ذلك التاريخ تعرضت العملات المشفرة لحملة شرسة كادت أن تقضي عليها للأبد، وذلك بسبب الأزمات التي تعرضت لها كبرى منصات التداول وفي مقدمتها منصة FTX”". حيث تعالت الأصوات بالمخاطر التي تشكلها تلك الرموز المشفرة على الاستقرار المالي والاقتصادي للدول.

ورغم النمو السريع، تظل العملات المشفرة محل جدل واسع. فهي لا تخضع لرقابة مركزية، ما يجعلها عرضة للاستخدام في أنشطة غير قانونية، مثل غسيل الأموال. كما أنها لم تنجح حتى الآن في أداء دورها كوسيط موثوق لتبادل السلع والخدمات، وذلك بسبب تعقيد تقنياتها وصعوبة وصولها إلى عامة المستخدمين.

وعلى خلاف الملاذات الآمنة التقليدية، تعاني العملات المشفرة تقلبات سعرية حادة، ما يجعل الاستثمار فيها محفوفًا بالمخاطر. كما أن عملية تعدينها تستهلك كميات هائلة من الطاقة الكهربائية، معتمدةً بشكل كبير على الوقود الأحفوري، ما يجعلها في مواجهة مباشرة مع الأهداف المناخية العالمية.

العملات المشفرة هي بلا شك أحد مخرجات الثورة الرقمية المعاصرة. ورغم ما حققته من شعبية وارتفاع في القيمة، إلا أنها لا تزال تعاني ثغرات جوهرية تحول دون تحولها إلى أصل آمن ومستدام. ولكي تكتسب دورًا أكثر حيوية في الاقتصاد العالمي، لا بد أن تتجاوز هذه التحديات وتحقق توازنًا بين الابتكار والتكامل مع النظام المالي القائم.

تحول العملات المشفرة يجب أن يكون جزءا من ثورة التمويل الحديثة القائمة على اللامركزية، سيمهد ذلك الطريقَ للقطاع للتحول من أداة مضاربة إلى ركن رئيسي في تمويل المشاريع وعمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول.


مستشارة اقتصادية

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي