عودة الولايات المتحدة والصين إلى التفاوض ليست إعادة ضبط للعلاقة

المحادثات إدارة للخلاف وليست حلاً له.. ربما يكفي هذا في الفترة الحالية

شكلت المفاوضات التجارية بين الولايات المتحدة والصين في لندن خطوة حذرة نحو تهدئة التوترات، لكنها لا تمثل بداية جديدة، فهي إستراتيجية قصيرة الأجل لتجنب تدهور أكبر، مع هدنة هشة قد تنهار في أي لحظة.
لكن هناك قضية أعمق في جوهر الأمر: الأمن القومي. إذ يرى الطرفان التجارة في الفترة الحالية من هذا المنظور، والمصافحات لن تحل المعضلة.
يجب على واشنطن أن تدرك أن بكين تطالب بالاحترام، ولن تقبل اتفاقاً متحيزاً طويل الأجل. ومن جهتها، على الصين أن تفهم أن الأمور لن تعود إلى ما كانت عليه، وأن الولايات المتحدة ستتوقع مزيداً من التنازلات، والقدرة على الوصول إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم. أما البديل، فهو استمرار التوترات، ما سيؤدي إلى ارتباك أكبر في بيئة التجارة العالمية، وعالم أكثر خطورة.
يُعد التراجع عن المواقف المتشددة في لندن أمراً إيجابياً، إلا أنه هش، إذ تحول التقارب إلى تبادل اتهامات في السابق. فبعد النشوة الأولية بالتوصل إلى اتفاق في جنيف لوقف نيران الحرب التجارية في مايو، اتهم الطرفان بعضهما بعضاً بخرق اتفاق خفض الرسوم الجمركية مؤقتاً بعد أن تجاوزت عتبة 100% بفارق كبير.

أوراق مساومة متوازنة

يشير المفاوضون حالياً إلى أنهم توصلوا إلى اتفاق مبدئي على إطار عمل لتهدئة التوترات التجارية، بناءً على التوافق الذي توصل إليه الجانبان في جنيف. وسيعرض كلٌ من الوفدين الاقتراح على رئيسه، بعد محادثات استمرت نحو 20 ساعة على مدى يومين.
وقال وزير التجارة الأمريكي هوارد لوتنيك: "حالما يوافق عليه الرئيسان، سنسعى إلى تنفيذه". ورغم عدم إتاحة التفاصيل الكاملة للاتفاق مباشرةً، أعرب المسؤولون الأمريكيون عن "توقعهم التام" لحل المشكلات المحيطة بصادرات المعادن الأرضية النادرة والمغناطيسات.
أوضح ستيف أوكون، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة "إيه بي إيه سي أدفايزرز " (APAC Advisors)، أنه لا يوجد رابح وخاسر في هذه المرحلة. فالمسائل الجوهرية أكبر بكثير من أي جولة محادثات. وقال لي: "يجب على إدارة ترمب أن تحدد ما إذا كانت تعتبر بكين منافساً إستراتيجياً أم خطراً وجودياً. تستطيع واشنطن تحمل التبعات الاقتصادية لحرب تجارية، لكن من الناحية السياسية، قد يتحمل شي جين بينج التبعات لفترة أطول من ترمب. بالتالي، هناك طرف لديه ورقة ضغط اقتصادية، وآخر لديه ورقة ضغط سياسية. إنه طريق مسدود في الفترة الحالية".
يترقب الرئيس الصيني اللحظة المناسبة، رغم تباطؤ الاقتصاد. ففي أحدث إشارة على مدى تأثير الحرب التجارية، ارتفعت الصادرات الشهر الماضي بمعدل أقل من المتوقع. فيما عادل أكبر انخفاض في الشحنات المتجهة إلى الولايات المتحدة منذ فبراير 2020- عند تفشي الجائحة- ارتفاع الطلب من دول أخرى. رغم ذلك، توفر المبيعات لأسواق أخرى دعماً ضرورياً لاقتصاد عالق في الانكماش ويعاني تراجع الطلب المحلي.

التنازلات تمهد طريق التعايش السلمي

تتمسك بكين بسرديتها التي تفيد بأن الحرب التجارية مشكلة سببتها واشنطن، وأن الصين مستهدفة بشكل مجحف. وحذر تعقيب نشرته وكالة "شينخوا" في الآونة الأخيرة من أن النظرة الأمنية الأمريكية للقضايا الاقتصادية تهدد بتقويض التعاون العالمي.
أشار رايان هاس، من "بروكينجز إنستيتيوشن" إلى أن هناك مساراً للتعايش السلمي، لكن يجب تقديم تنازلات. فلتحقيق تقدم مع شي، على ترمب أن يقر بأن الدولتين قوتان عظميان، ولا يمكن لأي منهما فرض شروطها على الأخرى، وأن البلدين سيتأثران سلبياً بفرض رسوم جمركية مرتفعة على بضائع بعضهما، لكنها لا تكفي وحدها لتجبر أحد الطرفين على الاستسلام.
لا يرغب الرأي العام الأمريكي في توسعة نطاق النزاع مع بكين. ربما يكون الاستياء من سلوك بكين مرتفعاً، لكن تجنب حرب لا يزال الأولوية القصوى. يبدي الأمريكيون بوضوح رغبتهم في التعامل مع المنافسة من دون التصعيد إلى نزاع شامل.

الصين لن تقبل اتفاقاً متحيزاً آخر

ليحدث ذلك، يجب أن تدرك واشنطن أن بكين تتوق إلى الاحترام، وسيكون من الحكمة للولايات المتحدة أن تأخذ في حسبانها مبدأ "ميانزي" (mianzi)- أي "حفظ ماء الوجه"- فلن يقبل شي إلا اتفاق طويل الأجل يمكن عرضه داخل البلاد وخارجها على أنه انتصار. فبكين تعلمت الدرس من حرب ترمب التجارية الأولى، واعتبرت أن الاتفاق حينها كان متحيزاً لصالح واشنطن. ولن تكرر ذلك الخطأ ثانيةً.
لا تفضل الصين دوماً "حفظ ماء الوجه المتبادل"، لكن سيكون من الحكمة أن يمنح المسؤولون قدراً منه لترمب أيضاً. صحيح أن الرسوم الجمركية التي فرضها غير مألوفة، لكن مؤيديه يطالبونه بإبداء القوة، وليس التنازل. على بكين أن تتمكن من فهم ما يحدث عندما يجب على السياسيين الاستجابة للضغط الشعبي.
لا يملك أي من الطرفين اليد العليا ليخرج الآخر في صورة الخاسر الواضح. وفي أفضل الأحوال، ربما حققت المحادثات في لندن ما يكفي للمساعدة على رسم مسار لمستقبل أقل توتراً، وهذا إنجاز بحد ذاته، لكن وصف هذه اللحظة بأنها "إعادة ضبط للعلاقة" سيكون خطأً.
خاص "بلومبرغ"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي