العلاقات الاقتصادية الليبية - الغربية.. إلى أين؟
أن يتلاعب المجرمون والعصابات بمصير الأشخاص فهذا أمر طبيعي, لكن أن تستغل الدول الكبرى والهيئات القضائية الدولية الأوضاع الإنسانية للأفراد من أجل أن تسير مصالحها في وقت تدعي فيه الدفاع عن الحريات والديمقراطية فهذا منكر, إنه وبعد أن هبت رياح التغيير على سياسة ليبيا الخارجيّة جراء الانفتاح على العالم الغربي وأصبحت ليبيا بلدا جاذبا للاستثمارات الغربيّة وإن قوبل ذلك بعدم وفاء أمريكي بالالتزامات الاقتصادية والسياسية, وهو نوع من الخديعة الأمريكية وتنكر للوعود التي قطعت والاتفاقات التي وقعت, حيث ما زال سريان منع تصدير الأسلحة إلى ليبيا قائما. وبعد الخطوات الليبية المتسارعة لتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا التي فتحت الباب لتعزيز النشاط التجاري بين الجانبين ومهدت الطريق أمام الشركات الأمريكية والأوروبية للاستثمار في قطاعات النفط والاتصالات والسياحة, لاحظنا أوروباّ وهي تنظر بإيجابية وبلهث للانفتاح الليبيّ وسعت الحكومات الأوروبية بما فيها بريطانيا إلى مغازلة طرابلس وأشادت بالعلاقات الليبية - البريطانية المتميزة في شتى المجالات المالية والاستثمارية سعيا وراء الحصول على أعمال في ليبيا التي أخذت تخرج من عزلتها, هذه الاستثمارات البريطانية التي على غرار شركات النفط مثل "بريتش بتروليم" و"شل" من بين عدة شركات بريطانية تأمل في الحصول على أرباح كبيرة بعد اقتسام الكعكة الليبية, ووصل الأمر بالفرنسيين إلى تقديم الدعم التقنيّ لتوظيف الطاقة النووية في الأغراض السلمية, وازدادت وتيرة التوقعات لأن تصبح ليبيا من أكبر الدول المزودة للنفط والغاز الطبيعي لفرنسا والعمل على تزويد ليبيا بمفاعل نووي لتحلية مياه البحر, وكذلك اتفاق إطاري لشراكة شاملة في قطاعات الصحة والتعليم والسعي إلى تحقيق مشروع ساركوزي بإنشاء اتحاد متوسطي لضمان تأييد ليبيا هذا المشروع, وبلغ معدل التبادل التجاري أكثر من ثلاثة مليارات دولار بين البلدين. أما ألمانيا فقد أعربت عن استعدادها لتصدير خبراتها وتقنياتها للاقتصاد الليبي النامي وزيادة حصة شركاتها في الاستثمارات المختلفة في ليبيا وعقدت شركات ألمانية عديدة الآمال على تطوير العلاقات الاقتصادية الليبية - الألمانية في مجال النفط والغاز, وأن شركات ألمانية مثل RWE وBSAF و"فينترشال" التي تعمل في ليبيا منذ فترة طويلة ولم تنجح في الجولة الأولى من المناقصات في الحصول على امتيازات في قطاعي النفط والغاز كون عروضها لم تكن الأنسب, في حين ناشدت السلطات الليبية الشركات الألمانية تقديم عروض أكثر جرأة من أجل منافسة الشركات الأجنبية الأخرى, خاصة الأمريكية منها, إلى ذلك فقد أعلن رئيس الوزراء البلغاري أن بلاده تنوي إلغاء الديون الليبية المستحقة لها والتي تقدر بنحو 54 مليونا وذلك للمشاركة في صندوق بنغازي الخاص بتقديم تعويضات لعائلات الأطفال الليبيين المصابين بالإيدز .. ما سر هذا التهافت الغربي تجاه ليبيا؟
من ناحية تاريخية وبعد أن فرضت الولايات المتحدة حصاراً على ليبيا بعد أن أمر الرئيس الأمريكي رونالد ريجان عام 1986 بوقف العلاقات الاقتصادية والتجارية مع ليبيا وتجميد الأصول الليبية في الولايات المتحدة, كما فرضت الأمم المتحدة عقوبات اقتصادية أخرى استمرت من 1992 إلى غاية 2003 وألحقت ضرراً بالغاً بالتطلعات الليبية على الصعيد الاقتصادي, انعكس ذلك على استغلال الموارد البترولية التي طمحت إليه ليبيا في بناء اقتصادها, وبعد أن جرب الليبيون طوق العزلة الاقتصادية المر على مدار عدة عقود, ثم جاءت توصيات البنك الدولي برفع الدولة أيديها عن الاقتصاد وتركه للقطاع الخاص كقطاعات خدمات التعليم والصحة والماء والكهرباء والغاز والإسكان والخبز حتى يتسنى شراء الاحتياجات بالأسعار العالمية والمرتبات المحلية, أو ربما المطالبة ضمنيا برفع الدعم عن المواد الأولية نتيجة لازدياد الواقع الاجتماعي تأزما واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء وارتفاع نسب البطالة وصعوبة إيجاد السكن الملائم بسهولة, بعدئذ أذعنت ليبيا وقبلت بتحمل مسؤوليتها عن حادث لوكربي ودفعت تعويضات لأهالي الضحايا بمليارات الدولارات, ثم أعلنت تخليها عن برامج إنتاج أسلحة الدمار الشامل، وسلمت ضابط المخابرات السابق لديها عبد الباسط المقراحي الذي أطلق سراحه أخيرا بسبب إصابته بسرطان البروستاتا, حسبما جاء في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة. في عام 2004 رفعت الولايات المتحدة العقوبات الاقتصادية المفروضة على ليبيا منذ عام 1986 وعادت شركات النفط الأمريكية إلى ليبيا بعد أن ثبت أن ليبيا واصلت التعاون مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، بعدها تلقت طرابلس كثيرا من الوعود التي شملت مساعدات اقتصادية وتحويل ليبيا إلى قاعدة صناعية كبرى في المنطقة وإتاحة الاستفادة من التكنولوجيا المتقدمة. أما فيما يتعلق بالمصالح والدوافع الليبية نجد أن هدف التطبيع الكامل للعلاقات الليبية - الأوروبية هو إتاحة وصول المنتجات الزراعية الليبية وصادرات الأسماك إلى أوروبا بعد أن حققت ليبيا مكاسب من وراء هذه القضية منها اتفاقيات الشراكة مع دول الاتحاد الأوروبي وتسهيل دخول المنتجات الليبية للأسواق الأوروبية وصفقات الأسلحة, لكن اللافت للنظر أنّ الانفتاح الليبيّ نحو الغرب لم يواكبه انفتاح في الحريات العامة من حرية الصحافة والتعبير وحقوق الإنسان, وإن كانت هذه النقطة ليست في صميم موضوعنا الاقتصادي, إلا أن ليبيا سلكت مسارا مختلفا وتخلت تدريجيا عن حماسها القومي العربي واتجهت نحو إفريقيا خشية سقوطها على غرار النظام العراقي على ما يبدو.
الثروات التي تتمتع بها ليبيا جعلها أحد الدوافع الرئيسة التي طالما دفعت الأوروبيين لاستغلالها تحت أي بند أو مسمى, إذ تعد ليبيا من الدول الغنية بثروتها البترولية حيث تنتج مليوني برميل يوميا من النفط وتعتزم زيادة إنتاجها إلى ثلاثة ملايين برميل يوميا اعتبارا من سنة 2010، وذلك من احتياطي قدره 41.5 مليار برميل، أما معدل إنتاج الغاز فيبلغ 399 مليار قدم مكعبة, وذلك من احتياطي قدره 52.7 تريليون قدم مكعبة، ولا شك أن هذا وغيره من الثروات الأخرى دفع عديدا من الدول الغربية المذكورة تلهث لتوطيد علاقاتها مع ليبيا وتتلاعب بالقوانين الدولية وتستغل القضايا المختلفة مهما بدت إنسانية, ولأن ليبيا باعتبارها أكبر تاسع احتياطي نفطي في العالم ولديها ثروة كبيرة من النفط والغاز جعلها تبادر في السنوات الأخيرة إلى إجراء تعديلات على قوانينها الاقتصادية وأصدرت قوانين تشجيع الاستثمارات الأجنبية وسط مطالبة الغرب بمزيد من التسهيلات بما في ذلك سن قوانين جديدة, خاصة في القطاع البنكي, تسمح للشركات الأجنبية بنقل رساميلها إلى خارج البلد الذي تستثمر فيه, على أن المشكلة التي واجهت ليبيا هي مشكلة أي بلد عربي تعلقت بقضايا إدارية وبيروقراطية في الدوائر والوزارات وصعوبة الحصول على المعلومات اللازمة والتباطؤ في تطبيق القوانين الجديدة, من ناحية أخرى فقد أوضحت التطورات الأخيرة أنه مع وجود الاستعداد الغربي لفتح صفحة اقتصادية جديدة تضمن مصالحه فقد روج الغرب للإفراج عن المعتقل الليبي في اسكوتلندا عبد الباسط المقراحي والمدان بتفجيرات لوكربي لأسباب إنسانية لكن الواقع يقول إنها أسباب اقتصادية, وقد رفضت بريطانيا مزاعم تربط بين الإفراج عن المقراحي وبين الصفقات المهمة كصفقات الطاقة مع ليبيا. وقال وزير الأعمال البريطاني: "فكرة أن الحكومة البريطانية والحكومة الليبية يمكن أن تجلسا معا وتبرما اتفاقا بشكل ما بشأن حرية أو حياة هذا السجين الليبي وتجعلها جزءا من صفقة ما ليس أمرا خاطئا فحسب بل إنه أيضا غير قابل للتصديق, بل مسيء تماما", في حين قال القذافي إن خطوة الإفراج عن المقراحي هو في مصلحة العلاقات بين البلدين كما ستنعكس بشكل إيجابي بالتأكيد على كل مجالات التعاون بين البلدين, كما أكد ذلك ابنه سيف الإسلام وأوضح أن كل الصفقات التجارية والنفطية والغاز كانت تمر عبر المقراحي, فكان دائما استغلال وضع المقراحي لتسيير المصالح الليبية والبريطانية التجارية, ليس هذا فحسب بل إن مجريات الأحداث أكدت أيضا أن القضاء العالمي تسيره مصالح الدول الكبرى ويجري التلاعب به تحت أسماء مختلفة, فكيف نطالب القضاء في دولنا النامية أن يكون نزيها؟ وهل كان إطلاق سراح المقراحي لدواع إنسانية أم لدواع اقتصادية؟