إنماء القرى بالقروض والمشاريع
القرى لدينا في المملكة تعيش على الهامش, والسبب بوضوح هو تجفيفها من منابعها البشرية والاستثمارية. هذا التجفيف لم يحدث عمدا, لكنه حدث بسبب غياب رؤية واضحة للأدوار المفترض أن تقوم بها القرى. والنتيجة التي حدثت من جراء هذا أن القرى والأرياف أصبحت خاوية على عروشها، ولا سيما بعد بتر زراعة القمح التي كانت آخر الوسائل الإنعاشية للمناطق الريفية وازدادت تخمة المدن الرئيسية. ولا يوجد حل في تقديري لمعالجة كثير من المشكلات الرئيسية التي تعانيها المدن الرئيسية ـ كالسكن أو خلق فرص عمل - إلا بتنمية القرى. وهذا لا يمكن تحقيقه بالأحلام؛ بل لا بد من رؤية محددة يتم تعضيدها بالوسائل الممكنة, وأهمها المشاريع والقروض الحكومية.
حتى نتصور الدور المهم الذي من الممكن أن تقوم به القرى لنأخذ إشكالية المساكن مثلا, ارتفاع هائل في أسعار الأراضي, ورغم مرور سنة على بداية الأزمة إلا أن العقار لم يتأثر واستمر في تماسكه على أسعاره المرتفعة, ولا أعتقد أنه سيتراجع. كبح جماح الأسعار أو حتى خفضها يكمن إما في زيادة العرض وإما في تخفيف الطلب. زيادة العرض غير ممكنة بسهولة، الخيار الممكن هو تخفيف الطلب. وهذا يمكن تفعيله عبر تحويل مسارات الطلب على المساكن من المدن الرئيسية إلى القرى. الرياض مثلا يحدها من جهاتها الأربع قرى ومدن صغيرة ومتوسطة الحجم قابلة لأن تستوعب كما سكانيا كبيرا، فالقويعية والمزاحمية والمجمعة والخرج والحريق، كلها مدن قائمة، تستحق إعادة التفكير في إعادة إنمائها. بل هناك قرى تتوافر فيها الخدمات الرئيسية مثل الكهرباء والطرق والمدارس والمراكز الصحية ومع هذا فحجم سكانها لا يتجاوز المئات، في دلالة على عظم الجهود التي تبذلها الحكومة لرفاهية المواطن، ومع هذا فهي جهود لم يتم استغلالها الاستغلال الأمثل. تخيلوا إنشاء مدارس ومحطات كهرباء وطرق لأماكن لا يوجد فيها إلا المئات من البشر. أليس الأمثل أن تمتلئ الصفوف الدراسية بدلا من وجود معلم لكل ثلاثة طلاب؟ وقائمة الإشكالات طويلة ومن الممكن أن تتم معالجتها بإنماء القرى، مرورا بخلق فرص عمل حقيقية، وتخفيف العبء على البنى التحتية في المدن الرئيسية، علاوة على المزية الأمنية الاستراتيجية بأن تحاط المدن الرئيسية بدوائر متعددة من التجمعات السكانية. كل هذا من الممكن تحقيق بعضه ـ إن لم يكن كله - عبر إعمار وإنماء هذه القرى بشكل يجعل الاستقرار فيها خيارا ليس ممكنا بل مريحا أيضا.
لهذا أعتقد أن تنمية القرى المحيطة بالمدن الرئيسية خيار استراتيجي مهم, تفعيله لا أظنه مستحيلا. الحكومة تضخ في شرايين البلد مبالغ مالية ضخمة عبر القروض والمشاريع الحكومية المختلفة, ولكن مع الأسف معظمها متمركز في المدن الرئيسية ما يزيد من الاختناقات ويفاقم المشكلات الحالية. تحويل بوصلة هذه القروض إلى القرى كفيل بإحداث نقلة جوهرية, فعلى سبيل المثال بدلا من ضخ خمسة مليارات في مصانع أو مستشفيات تقام في المدن الرئيسية يتم اشتراط أن تقام تلك الكيانات في قرى تم تحديدها بشكل استراتيجي، وأعطيت المصانع أو المستشفيات مزية تعرفة كهربائية أو أسعار رمزية للخدمات الحكومية المقدمة، مثل إيجار الأرض أو التأشيرات أو غيرها. كثير من الكيانات تبحث عن أي مزية تزيد من ربحيتها ولو انتقلت عشر من الشركات الصناعية المتوسطة والكبيرة إلى قرية من القرى، لنتج عن هذا فورة في حياة هذه القرية. بالمثل الجامعات الحكومية الجديدة والكليات المتخصصة، والمستشفيات الحكومية أو المدعومة من قبل الدولة بدلا من رميها في المدن الرئيسية لو تم غرسها وتسهيل إقامتها بكل الوسائل في مواقع استراتيجية حول المدن الرئيسية لنتج عنها فورات اقتصادية جميلة ـ كما حدث في كلية الملك عبد العزيز الحربية وإحيائها للعينة والجبيلة، فليس من المستحيل أن تكون لدينا "قرية" متخصصة أو قائمة على مستشفى متخصص في زراعة الكلى أو القرنية، وقرية أخرى متخصصة في العلوم التقنية، وقرية رابعة كل اهتماماتها تنحصر في البحار والأسماك، وأخرى في النخيل والتمور، وهكذا .. سلسلة من القرى الاختصاصية القائمة إما على مصنع أو شركة أو جامعة أو مستشفى ـ كيان كالقلب لبقية أنشطة الحياة في تلك البقعة الجغرافية.
ختاما، هل يمكن أن نرى تمير وثادق والغاط والأفلاج مراكز اقتصادية حقيقية منتجة ممتلئة بالطلاب أو الموظفين أو المرضى أو العملاء والمستهلكين بدلا من اعتمادها الكلي على فتات المدن الرئيسية؟