فقر إعانات المؤسسات الصغيرة والمتوسطة

المؤسسات الصغيرة والمتوسطة - التي تقاس بعدد موظفيها المحدود في حدود 50 للصغيرة و250 للمتوسطة - المفترض أن تشكل العمود الفقري لاقتصاد البلد، لأنها ضمانة إيجاد الشريحة المتوسطة واتساعها، الشريحة الأهم لاستقرار أي كيان. دعم هذه المشاريع مترنح لدينا لأسباب متعددة أهمها سيطرة النظرة التقليدية على كيفية رسم آلية التعامل مع هذه الكيانات، فالنظرة لا تزال مقتصرة على ضرورة وجود ''الضمانات'' المتضادة مع جوهر فكرة دعم هذه الكيانات.
في الاتحاد الأوروبي تشكل الكيانات الصغيرة والمتوسطة 99 في المائة من الكيانات المستوعبة للقوى العاملة في الاتحاد بحدود 65 مليون نسمة، فهي أكبر حاضنة للقوى العاملة، أيضا أظهرت دراسة قامت بها منظمة الأمم المتحدة، أن هذه الكيانات توفر فرصا وظيفية أكثر لذوي المهارات المتدنية. كما تشكل هذه الكيانات المتوسطة فما دون الينبوع المتدفق للاختراعات والطرق الجديدة الرافدة لنمو اقتصادات الدول ويقدر إنتاجها الإبداعي في الاقتصاد بين 30 و60 في المائة وفقا لتقرير منظمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية. كما أن دورها في الإسهام الاجتماعي عميق، فوفقا لإحدى الدراسات، فإن مشاركة تلك الكيانات في برامج المسؤولية الاجتماعية بلغت في الدول الأوروبية 67 في المائة، وكان المسبب الرئيسي خلف هذا الحجم الكبير من الإسهام الاجتماعي هو الولاء لجغرافيا الاستثمار. ولا تكاد تخلو دولة من الدولة المستيقظة من سباتها من إدارة أو جهة حكومية معنية بتنمية هذه الكيانات.
الواقع لدينا لا يبدو مبهجا في التغلب على العقبات الرئيسية- وأهمها التمويل, فالاستراتيجيات الخاصة بهذه الكيانات لا تزال أسيرة مكبلة بالأطر التقليدية. طرق خانقة للإبداع ، فالفكرة الرائدة لا يمكن أن توجد لها ضمانة كافية في كل الأحوال، والأفكار المبدعة تنبع من رحم المكافحين لقسوة الحاجة التي تصقل المهارة وتفجر الطاقات و تدفع بالأفكار الجميلة إلى السطح، ولا تخرج ـ عادة - من عش الأثرياء القادرين على تقديم الضمانات. لدينا مع الأسف لا نزال نبحث عن الضمانات، وهو ما يعني البحث عن المشاريع المأمونة، معدومة الإبداع حتى تضمن المؤسسات التمويلية نسبة سداد عالية، بل إنها في بعض الحالات تعتسف الأفكار الريادية وتحورها إلى مشاريع روتينية، كفكرة تقدم بها أحد العصاميين عبارة عن مشروع حافلة سياحية في إحدى المدن، تم تحويرها بفضل المؤسسة التمويلية إلى فكرة حافلة نقل معلمات! ويا للمفارقة، فمن أهم أهداف تمويل الكيانات المتوسطة فما دون هو تحفيز الأفكار الخلاقة الاعتيادية لشق طريق جديد، لا أن تكون خانقة للأحلام. ولا يملك القدرة على تمويل هذا الخطر الإبداعي إلا المؤسسات التمويلية الحكومية لأن البنوك التجارية يهمها قبل كل شيء ضمان السداد، أما المؤسسات الحكومية فيفترض أن لها أهدافا أبعد نظرا من مجرد سداد القروض.
برنامج كفالة هو أحد الأجنحة التمويلية للحكومة الذي تسنم مهمة تمويل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. برنامج يحمل بذورا حسنة النية في جنباته، ولكن، وآه من لكن. فأولا، هذا البرنامج لا يقدم قروضا ولا يخرج من خزانته ولا ريالا واحدا. هو مجرد ضامن بنسبة محددة (كانت 50 في المائة ثم 75 في المائة) أمام البنوك التجارية، أي إذا تعثر المقترض، يتحمل الصندوق المديونية ويسدد عنه تلك النسبة فقط (لنتذكر أن الصندوق قدم في العام الماضي فقط أكثر من 5.5 مليار ريال للكبار). ثانيا، البرنامج يقوم بتوجيه هؤلاء الصغار إلى البنوك ليقدموا عليها طلبا للاقتراض، وهو بالطبع قرض تجاري بحت، سيكون بتكلفة، أو فوائد تمويلية ''شرعية''، تبلغ في بعض الحالات 15 في المائة من إجمالي التمويل. بشكل أو بآخر المستفيد الأكبر من هذا البرنامج هو البنوك. (لا ننسى في معمعة هذه المقارنة أن نتذكر أن الصندوق داعم رائع عبر القروض المجانية دون أي نسبة على التمويل لفئات غير المؤسسات الصغيرة والمتوسطة!).
وللدلالة على محدودية أثر هذا الدعم - إن صح القول حتى تجاوزا بتسميته دعم - فلنتصفح الأرقام. تقرير الصندوق الصادر عام 2008 يذكر أن برنامج كفالة قام بإصدار 292 وثيقة كفالة ''بقيمة إجمالية قدرها 118 مليون ريال''. فقط 118 مليون ريال هو أقصى ما يمكن للصندوق أن يقدمه لهؤلاء. تخيلوا لم يستطع الصندوق أن يغامر بدعم الصغار ـ بكفالة مجتزأة طبعا- إلا بمقدار 118 مليونا مع أنه قدم 5.5 مليار قروضا دون فوائد لغيرهم ـ بل قدم لمصنع مناديل قرضا يفوق كل ما قدمه من كفالات (133 مليون ريال). إن كانت ليست مهمة الصندوق القيام بهذا الدور فلتقفل تلك النافذة. ضعوها في مكان آخر. ولكن بقاءها هكذا يخلق شعورا مضللا. حتما هو شيء آخر لا أظنه يندرج تحت اسم دعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة. ابحثوا عن تسمية أخرى.
ختاما، لنجاح دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة يجب قبل كل شيء أن نحدد استراتيجيا ماذا نريد أن نحقق بهذا الدعم، وكيف وما التكاليف، ومن المسؤول والمدة الزمنية؟ إن كان الهدف هو استيعاب القوى العاملة، وخلق منافذ اقتصادية جديدة، وتوفير البيئة الخصبة للعصاميين، وتنمية القرى والأرياف، فالآليات المستخدمة اليوم لا يمكن لها الإنجاب. نحتاج إلى رؤية مختلفة تتعامل مع هذا المحور الجوهري بأدوات مختلفة. إن استمرت الاستراتيجية ذاتها - استراتيجية الضمانات- في التعامل مع المنشآت الصغيرة والمتوسطة فالموضوع مضيعة للوقت والجهد والمال وتشتيت للطاقات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي