في ظل انتهازية رأس المال العالمي .. النظام المالي الإسلامي بديلا
للعالم دورات متلاحقة فكما تنهض أمم تتهاوى أخرى وكذلك الوضع بالنسبة إلى الاقتصادات والنظم المالية تقوم بعضها على أنقاض بعض, وحيث إن الإسلام هو دين وسط جمع بين المادية والروحانية فأعتقد أن الفرصة مواتية الآن أكثر من أي وقت مضى للنظام المالي الإسلامي أن يثبت وجوده, فالله قد أراد له النصر بعد أن دكت الأنظمة الاقتصادية الاشتراكية والرأسمالية الواحدة تلو الأخرى, وشهدت الفترة الحالية ترهلا واضحا في النظام الرأسمالي وفي تحكمه في رأس المال العالمي بعد أن أفاقت قوى هذا الاقتصاد المادي الصرف مذعنة لأهمية وجود خطة حقيقية للإصلاح من أجل تحقيق الاستقرار الاقتصادي الشامل, وفي ظل الانهيارات المتعددة للمؤسسات المالية منذ أيلول (سبتمبر) 2008 والهبوط الحاد في أسعار الأسهم الأمريكية فيما أطلق عليه أزمة مصارف الأعمال في "وول ستريت" ودخول الاقتصاد الأمريكي في سبات عميق أطلق عليه رحلة ركود طويلة الأجل لم تفلح القمم الاقتصادية المختلفة سواء كانت 20 أو ثماني لانتشاله بعد أن تبين عجز دوائر رأس المال والبنوك عن تحصيل ما عليها من ديون ومن ثم عجزت عن الوفاء بقيمة الودائع أو ما عرف بأزمة الرهن العقاري التي بنيت على أساس قيام المشتري قبل أن يسدد باقي ثمن العقار ببيعه أو رهنه للحصول على قرض آخر, وكان من نتيجة ذلك تكبد أكبر مؤسستين للرهن العقاري في أمريكا وهما "فاني ماي" و"فريدي ماك" خسائر باهظة بلغت ستة تريليونات دولار وهو مبلغ يعادل ستة أمثال حجم اقتصاديات الدول العربية مجتمعة, فهذه المسلكيات اعتمدت أساسا على الإقراض بفائدة والذي هو عين الربا, بينما لو أشركنا صاحب المال في الربح وجب أن يشترك في الخسارة النّازلة أيضا غير أن الفائدة لا تقوم على هذا الأساس, ثم جاء ضعف الرقابة والشفافية في أداء المؤسسات المالية الرأسمالية التي يجب أن تكون قد مهدت الطريق للطرح الإسلامي المهضوم حقه منذ عقود طويلة أن يقول ها أنذا وأن يحظى بصدى واسع ويقدم علاجا مميزا يخرج به رأس المال العالمي من أزمته, فهل يستطيع النظام المالي الإسلامي أن ينسف ما قبله وأن يؤثر بجدارة في النظام التقليدي في معاملاته السمحة العصرية والبعيدة عن الغش والتدليس والمزايدة ويتفوق عليه من ناحية الصلاحية والسلامة أيضا انطلاقا من الأزمة المالية؟ لقد اختط قطاع الخدمات المالية الإسلامية خطا فريدا وقدم نموذجا مختلفا عن التمويل التقليدي قائما على مبدأ التمويل المدعم بالأصول وليس الديون مما جعل منه قطاعاً سائدا فرض نفسه في الأسواق المالية الرئيسة حول العالم حتى قبل الأزمة المالية العالمية وفشل ما سمي بالاقتصاد الحر في التحكم الصحيح في مسار الأمور ما دام قد اتبع صفقات احتيالية, وإذا كان التمويل الإسلامي ما زال يعد موضوعاً جديدا لكنه يتمتع بالجدارة الأكاديمية والعملية على حد سواء وهو يتمتع بمزايا تجعل من منهجه وقوانينه ونظرياته المختلفة المانعة للاستغلال ومن استنساخ المال لأن النقود لا تلد نقوداً بل لابد من تدويرها من حلبة النشاط الاقتصادي من أجل أن تنقلب إلى سلع وخدمات وتتفاعل مع عوامل أخرى لتحقق النمو والتطور, وكانت الصيرفة الإسلامية ـ وما زالت ـ جزءا استراتيجيا من نظام التمويل الإجمالي, كما أن للسياسات الضريبية والائتمانية والنقدية للدولة الإسلامية تأثيرا قويا في العمل المالي بما يتطلب ذلك من طرح أموال بضمان أصول حقيقية وتعزيز الخدمات المالية للأفراد والشركات على أساس العدالة ومشاركة المخاطر, وخلاصة القول إنه يجب إدخال نظام التمويل بضمان أصول حقيقية بشكل تدريجي على نطاق واسع دون إغفال الأعراف الاجتماعية, وإذا كانت النظم المالية الإسلامية قد جنبت ما لا يقل عن ربع ثروات العالم من التأثر بالأزمة الراهنة التي تفجرت من المشتقات المالية أو قيام البنوك بعمليات التوريق والتي اعتمدت على بيع الديون أو المتاجرة بها باعتبارها مخالفة شرعية لأنها بيع ما لا يملك أو الحصول على ما لا يستحق, فهذه الأسباب يجب أن تجعل من النظام المالي الإسلامي مؤهلا تاريخيا لقيادة المسيرة الاقتصادية العالمية, وعلى الرغم من اتهام الإسلام بالإرهاب في أوروبا وأمريكا إلا أنه آن الأوان لتصحيح الصورة الخاطئة خصوصا بعد أن انطلقت الأصوات من الغرب نفسه تنادى بتطبيق قواعد النظام الاقتصادي الإسلامي, فمن بريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى أستراليا واليابان وروسيا وغيرها من البلدان التي أخذت تنادي بضرورة تشريع أنظمة مالية إسلامية في بنوكها المركزية مما جعل الفرصة مواتية للتشريعات الإسلامية في البنوك التقليدية أن تأخذ مكانها من خلال التصكيك وصناديق الاستثمار وهي رجوع إلى أحكام القرآن بشكل أو بآخر في تحريم الربا أو استبدال الفائدة بالمعاملات الإسلامية, هذه الأصوات يجب أن تعد فتحا ليس فقط بخصوص الاقتصاد المالي بل حتى عن صورة المسلمين الاجتماعية التي أراد المجتمع الغربي إظهارها منتكسة في صورة حجاب, إنها لفرصة مواتية للمسلمين لأن يفرضوا أنفسهم وكيانهم بعد أن تداعت المؤسسات المالية الكبيرة القائمة على فقاعتي بيع الديون والربا اللذيم نهى الله عنهما لما فيهما من استغلال النّاس وأكل أموالهم بالباطل وما ترتب عليهما من سوء توزيع للثّروة وهدر للموارد المالية مما يترتب عليه ضعف للتّنمية الاقتصاديّة والاستثمار ومن ثم الارتماء في أحضان التّضخم والبطالة وغير ذلك من مظاهر الاقتصاد الرأسمالي، لقد آن الأوان للمؤسسات المصرفية الإسلامية أن تسهم بفعالية في التنمية وتحقيقها وأن تقود العالم وتفرض رؤاها وذلك لما تملك من مميزات عجز الآخرون عن اقتنائها، هذه القيادة ليست نابعة من الحماس والتباهي الديني لكنها قائمة على أسس نظريات مالية متينة كالمضاربات الإسلامية والمشاركات والمرابحات وهي تتميّز بأنها تحقق الأمن الاقتصادي والمالي وتساعد على علاج مشكلات مهمة كالبطالة والفقر, ذلك أن تأثير عمليات المصارف الإسلامية المحتمل في العملاء أو المجتمع أو المال يعد عاملاً مهماً يحدد سلامة عملياتها إلى جانب الامتثال لأحكام الشريعة والكفاءة المهنية, إنه الاقتصاد الإسلامي والنظام المالي الإسلامي الذي يجب أن يقدم نفسه دون هوادة باعتباره منقذا للبشرية وبديلا ومعوضا عن استغلال المرابين والانتهازيين الماليين, وإذا كان العرب والمسلمون قد لهثوا طيلة العقود الماضية مضللين وراء تقنية الصيرفة التقليدية وتعلم إجراءاتها التي لا تعدو عن أن تكون انتهازية ومبتذلة في كثير من الأحيان فقد آن الأوان لبعث النظام المالي الإسلامي بقوة أكبر من ذي قبل خصوصا أنه يتميز عن بقية الأنظمة المصرفية التقليدية بأنه أكثر صدقا وواقعية ومهيأ لأن يكون أكثر أماناً وصفاء في تطبيق عديد من القواعد وفي مقدمتها إلغاء معدلات الفائدة ومنع الاستثمار في القطاعات المشبوهة التي تفضي إلى التهلكة كالسجائر والخمور والأسلحة ولحوم الخنزير وغير ذلك, وبعد أن شهدت منطقة الشرق الأوسط ظهور أدوات مالية جديدة إضافة إلى بنوك وأنظمة مالية أكثر حداثة وتوافقاً مع العالم المعاصر إلى جانب التزام المؤسسات التي توضع فيها, يجب أن تعتبر هذه فرصة ثمينة لإعادة النظر واحترام الذات وتقديمها بصورة أفضل إلى الآخرين.