صناعة الكتاب
ذكر الوراق المعروف ابن النديم في كتابه "الفهرست" نقلا عن الفيلسوف المسيحي يحيى بن عدي المنطقي الذي قال: "نسخت بخطي نسختين من التفسير للطبري وحملتهما إلى ملوك الأطراف، وقد كتبت من كتب المتكلمين ما لا يحصى"، ولعل هذا من أغرب الأخبار أن يكتب مسيحي تفسير القرآن بخط يده!
وهنا إشارة بالغة الأهمية إلى أن صناعة المعرفة بلغت من القوة والانفتاح في الحضارة الإسلامية مبلغا عظيما جعل احترافها متاحا حتى لغير المسلمين دون أن يقابل بأي رفض أو استنكار، حتى إن كان ذلك الاحتراف متصلا بميدان شديد الخصوصية في الإسلام، ألا وهو تفسير القرآن الكريم!
فالصنعة الجيدة التي تحكمها المهنية والموضوعية تفرض نفسها بغض النظر عن الانتماء الديني والطبقي لصاحبها. وصناعة نشر الكتاب أو ما يعرف قديما "الوراقة والوراقين" من أعظم الصناعات التي قدمتها الحضارة الإسلامية للبشرية، واهتمت هذه الصناعة بالكتاب بنوعيه "الأصيل" المؤلف و"الدخيل" المترجم، كما وضعت لعمل هذه الصناعة ضوابط وخصصت لمنتجاتها أسواق، وازدهرت حولها صناعات مساندة مثل صناعة الأقلام وكيمياء تركيب الأحبار من مختلف الألوان، وتفننوا في ذلك حتى تمكنوا من صناعة حبر يقرأ مكتوبه ليلا ولا يقرأ نهارا، وآخر يتلون حسب مصدر الضوء!
واحترف في مهنة نسخ الكتب علماء كبار وأمراء مشاهير وربات بيوت سعيا لتحصيل دخل يوفر لقمة عيش كريم، ومنهم مريم بنت عبد القادر التي نسخت قاموس "الصحاح" لأبي نصر الجوهري، وكتبت في نهايته عبارة مؤثرة هذا نصها: "أرجو من وجد فيه سهوا أن يغفر لي خطئي، لأني كنت بينما أخط بيميني كنت أهز مهد ولدي بشمالي"!
وكان أول من عرف بتخصصه في وراقة المصاحف عمرو بن نافع مولى عمر بن الخطاب، أما أول من أطلق عليه لقب "الوراق" أبو رجاء مطرالخراساني. ثم بدأ الوراقون جمع الحديث النبوي وتوثيق فتاوى الصحابة والتابعين وتدوين لغة العرب وأشعارها، وأدت كثرة طلاب العلم وازدياد انشغال العلماء بإقبالهم على التأليف إلى اتخاذ بعض الأئمة "وراقا" أو "كاتبا" خاصا كما يتخذ اليوم المؤلف ناشرا لطباعة كتبه.
وكان من أعظم نتاج الوراقة وفرة الكتب ما مهد الطريق لإنشاء المكتبات العامة والخاصة، وإنتاج أغنى تراث علمي عرفته البشرية حتى اخترعت آلة الطباعة في 1450 على يد العالم الألماني يوهان جوتنبرج، ورغم أن اختراعها شكل حدثا تاريخيا وانقلابا ثقافيا غير وجه التاريخ، إلا أنه في الوقت نفسه قضى على المهنة التي كانت السبب في اختراعها.