تساؤلات حول جاذبية صناعة التكنولوجيا البريطانية للمستثمرين .. هل تحقق الـ 4 تريليونات دولار؟
كان العام الماضي عاما قاسيا بالنسبة للنشاط الاقتصادي في المملكة المتحدة خاصة لقطاع التجزئة، ففي عام 2022 تم إغلاق كثير من المتاجر أكثر من أي وقت مضى في الخمسة أعوام الماضية، ومن المؤكد أن قطاع الأعمال يواجه التحديات ذاتها هذا العام أيضا.
في المتوسط كان يغلق 50 متجرا في المملكة المتحدة يوميا عام 2022، بعض هذه المتاجر كانت تغلق للأبد نتيجة الإفلاس، والبعض الآخر كان يغلق كجزء من برامج خفض التكاليف من قبل كبرى شركات تجارة التجزئة.
لبعض الخبراء لم تكن تلك المؤشرات شديدة الخطورة، فقطاع التجزئة على أهميته يدخل ضمن القطاعات الاقتصادية التقليدية، والاقتصاد البريطاني يستهدف القطاعات ذات الطابع الإبداعي والابتكاري مثل قطاع التكنولوجيا، الذي سيحدد لمن ستكون الغلبة مستقبلا.
لكن بالتأكيد لم تكن تلك هي وجهة نظر الأغلبية العظمى من الخبراء، ففي استطلاع للرأي بين كبار المصنعين في المملكة المتحدة انخفضت نسبة المصنعين الذين يعتقدون أن بريطانيا تتمتع بموقع تنافسي، وتراجعت النسبة من 63 في المائة عام 2021 إلى النصف تقريبا 31 في المائة عام 2022، وقال 43 في المائة من الأشخاص الذين استطلعت آراؤهم إن بريطانيا أصبحت أقل جاذبية للمستثمرين الأجانب.
مع هذا لم يكل أو يمل ريشي سوناك رئيس الوزراء البريطاني من أن يكرر أن حكومته "مؤيدة للأعمال بلا تردد"، وخلال مؤتمر Business Connect صرح قائلا "نحتاج إلى التأكيد من هنا أن هذا البلد هو الذي يحدث فيه الابتكار سريعا".
لم تمر سوى أيام معدودات على تصريح رئيس الوزراء البريطاني حتى تلقى لكمة قوية لم يكن يتخيلها، إذ شنت شركة مايكروسوفت عملاق التكنولوجيا العالمي هجوما عنيفا وصريحا على المملكة المتحدة ومناخ الأعمال فيها لتصف بريطانيا بأنها "مغلقة للعمل".
التصريح جاء من قبل برادفورد لي سميث نائب رئيس مجلس إدارة مايكروسوفت ردا على حظر هيئة المنافسة والأسواق في المملكة للاندماج المقترح بين شركة "أكتيفيجن بليزارد" التي تنتج لعبة الفيديو الشهيرة "كول إف ديوتي" وشركة مايكروسوفت في صفقة بقيمة 69 مليار دولار، وكان من شأن إتمام الصفقة أن يمنح شركة مايكروسوفت الأمريكية موقعا مهيمنا في مجال ألعاب الفيديو.
كانت تصريحات برادفورد سميث بمنزلة "بوابة الجحيم" التي فتحت سيلا من الأسئلة والتساؤلات حول مناخ الأعمال في المملكة المتحدة وإلى أي مدة يمكن لرؤوس الأموال والشركات العالمية التعامل مع بريطانيا كسوق وواجهة استثمارية إيجابية للراغبين في الاستثمار، خاصة أن هجوم نائب رئيس مجلس إدارة مايكروسوفت لم يقف عند هذا الحد، بل واصل الهجوم قائلا "الاتحاد الأوروبي مكان أكثر جاذبية لبدء عمل تجاري إذا كنت تريد أن تبيعه يوما ما .. إن القناة الإنجليزية التي تفصل بريطانيا عن أوروبا تبدو أوسع من أي وقت مضى".
مع هذا فإن الأرقام والوقائع تدفع إلى الاعتقاد بأن تصريحات المسؤول في شركة مايكروسوفت كانت تحمل كثيرا من الغضب والتسرع في التعليق، فالمملكة المتحدة ثالث دولة في العالم في مجال التقنيات الحديثة، وبلغت قيمة صناعة التكنولوجيا فيها تريليون دولار لأول مرة العام الماضي، لتأتي في الترتيب بعد الصين والولايات المتحدة من حيث الاستثمار، والأولى أوروبيا حيث توجد مسافة كبيرة بينها وبين أقرب منافسيها.
لكن تلك الحقائق لا تنفي من وجهة نظر رجل الأعمال البريطاني إل.دي. جورج وجود تحديات حقيقية تواجه الاستثمار الأجنبي في المملكة المتحدة، ويشير إلى أن المملكة المتحدة تشهد حاليا أوجه تشابه مع وضعها الاقتصادي في منتصف سبعينيات القرن الماضي، عندما كان ينظر إلى بريطانيا على أنها رجل أوروبا المريض اقتصاديا بعد انضمامها إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية.
وقال لـ"الاقتصادية" إن "هناك عددا من العوامل المرتبطة بالأعمال التجارية التي تقف وراء هذا التراجع، فهناك شكوك حول جودة الإدارة في الشركات البريطانية في الوقت الراهن والبعض يعدها الأسوأ في مجموعة السبع، وهناك عديد من مراكز الأبحاث ذات الثقل الدولي ترى أن الاستثمار من قبل الشركات البريطانية من بين أدنى المستويات في مجموعة السبع في الأعوام الأخيرة، وهذا يقوض الابتكار والتطوير الضروري للقدرة التنافسية".
ويستدرك قائلا "بعض الشركات لم تعد تهتم بالتدريب والتعليم لضمان الحصول على مهارات حديثة، ومرصد الهجرة التابع لجامعة أكسفورد أشار إلى أن الاعتماد المتزايد على العمالة المهاجرة الرخيصة من الخارج أعاق الشركات البريطانية".
نتيجة لتلك العوامل، فإن مناخ الثقة في الأعمال والاستثمار يتراجع في المملكة المتحدة، خاصة بعد مغادرة الاتحاد الأوروبي الذي أوجد مشكلات متعددة للاقتصاد البريطاني، إلى الحد الذي جعل غرفة التجارة البريطانية ترى أن خروج المملكة المتحدة من عضوية النادي الأوروبي، كان بمنزلة فرض بريطانيا عقوبات فعلية على نفسها.
لا ينفي الخبراء ما أشار إليه رجل الأعمال البريطاني إل.دي. جورج، مع هذا يرى البعض أن المشكلة ربما تكمن في السياسة أكثر منها في الاقتصاد.
من جانبها، قالت لـ"الاقتصادية" الدكتورة بيبر زيون الباحثة في مجال النظم السياسية "حزب المحافظين الحاكم يفخر دائما بأنه يمثل قطاع الأعمال، لكن الأعوام الأخيرة تظهر بوضوح أن الحزب يواجه وضعا داخليا مرتبكا، وفي بعض اللحظات عندما تولت ليز تراس رئاسة الوزراء كاد الاقتصاد البريطاني برمته ينهار نتيجة قراراتها غير المدروسة، لذلك في الأعوام الأخيرة لم يعد الحزب قادرا على إيجاد أو تعزيز مناخ الثقة في الاقتصاد البريطاني، ولذلك الشركات الكبرى تحذر من أن استمرار الاضطرابات داخل الحزب الحاكم والحكومة قد يضر بآفاق النمو المستقبلي".
وأضافت "يمكن تفهم صعوبة القيام بعملية إصلاح للأضرار الهائلة التي أصابت المالية العامة البريطانية نتيجة وباء كورونا والحرب الروسية - الأوكرانية وأزمة الطاقة، لكن زيادة الضرائب في بريطانيا لا يتناقض فقط مع أيديولوجية حزب المحافظين، وإنما يؤدي إلى نفور الاستثمارات الدولية، خاصة أن النظام الضريبي البريطاني معقد ومربك وقديم، وكثير من عمليات الإدراج في البورصة مرهقة ومكلفة".
مع هذا ترى نخبة من الخبراء أن فكرة أن المملكة المتحدة لم تعد مكانا ملائما للأعمال أو للاستثمارات الدولية فكرة تتصف بالعموم الشديد وعدم الدقة، وأنها بالفعل وفي بعض القطاعات ربما فقدت تميزها النسبي التاريخي، لكنها بالتأكيد في قطاع التكنولوجيا لا تزال تتمتع بكثير من القدرات التي تجعل القطاع في مصاف القطاعات الجذابة للاستثمارات الدولية.
أغلب التقديرات تشير إلى أن شركات التكنولوجيا في المملكة المتحدة ستبلغ قيمتها 2.6 تريليون دولار هذا العام إذا استمرت في المسار الحالي، ولكنها قد تصل إلى أربعة تريليونات دولار بدعم من الحكومة ومزيد من استثمارات رأس المال الخاص والدولي عام 2032، وتكشف تلك التقديرات أن المملكة المتحدة عند نقطة انعطاف قوية فإما أن تعزز نموها المستقبلي وريادتها في مجال التكنولوجيا الحديثة، أو تتراجع إلى الخلف لتفسح المجال لمنافسيها خاصة في القارة الآسيوية.
وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن استثمارات المستثمرين في مجال التكنولوجيا تباطأت خلال الأشهر الستة الماضية، وذلك كجزء من التباطؤ العام في الاقتصاد العالمي، وفي العام الماضي كانت المملكة المتحدة أقل من المتوسط العالمي في التراجع الاستثماري في التكنولوجيا، فبينما تقلصت الاستثمارات التكنولوجية على المستوى الدولي بنسبة 32 في المائة كانت تلك النسبة 28 في المائة في المملكة المتحدة، وجمعت الشركات الناشئة في بريطانيا 30 مليار دولار العام الماضي، ورغم أن ذلك كان أعلى بنسبة 72 في المائة من عام 2020، إلا أنها كانت أقل مما حققته عام 2021.
كما شهد العام الماضي انخفاضا في معدل إنشاء الشركات أحادية القرن -الشركات التي تقدر قيمتها بمليار دولار أو أكثر- إذ لم تنم بأكثر من 4 في المائة فقط مقارنة بـ41 في المائة عام 2021، بينما ارتفعت في الوقت ذاته أعداد شركات يونيكورن المستقبلية، أي: الشركات التي تراوح قيمتها بين 250 مليون دولار و800 مليون دولار بنسبة 41 في المائة بين عامي 2021 و2022.
بدوره، يرى الدكتور لوجن أيسن أستاذ أنظمة الاستثمار في جامعة كامبريدج، أن الأرقام المشار إليها أعلاه تشير إلى تحسن دعم الشركات البريطانية لتوسيع نطاقها في مجال الاستثمار في مجال التكنولوجيا، لكن هذا لا يكفي من وجهة نظره لتحقيق صناعة بقيمة أربعة تريليونات دولار بحلول عام 2032 كما تستهدف الحكومة.
وأوضح لـ"الاقتصادية" أن تحقيق ذلك يتطلب ثلاثة أشياء، أولها ربط رأس المال الاستثماري طويل الأجل بجميع مراحل نمو الشركة، وليس فقط في المراحل الأولى المرتبطة بالتأسيس، وهذا يتطلب زيادة الاستثمارات بنحو 15 ضعف ما هو عليه الآن.
وثاني هذه الأمور، يتمثل في ضخ مزيد من الاستثمارات ذات الطبيعة النوعية عبر التركيز على المواهب والقدرات الإبداعية في فروع تكنولوجية محددة، وسيسمح ذلك بمزيد من التخصص وتضيق الفرصة على المنافسين للشركات البريطانية.
وأضاف أنه بغض النظر عن تصريحات مايكروسوفت بشأن مناخ الأعمال في المملكة المتحدة، فحقيقة الأمر أن بريطانيا ربما تكون الآن في حاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى اتخاذ قرارات جريئة لإيجاد مناخ مفعم بالثقة والحيوية بالنسبة للشركات العاملة في مجال التكنولوجيا، باعتبار ذلك أحد المتطلبات المعاصرة للأعمال التجارية، لكنها أيضا في أمس الحاجة وهو الأمر الثالث إلى إعادة ترتيب أوراقها الداخلية المبعثرة لتبعث برسالة إلى الشركات الدولية بأن بريطانيا تمتلك بنية تحتية قوية للأعمال بقوة عاملة تزيد على 30 مليون شخص، وأنها تعمل على إدخال تحسينات هائلة تعزز من مرونة الأسواق البريطانية، وتؤهلها لامتلاك مزيد من مقومات القوة في عالم الصناعات التكنولوجية المتطورة.