عصر التوازنات .. وليس الانحياز

العالم في خضم تغييرات جوهرية ومصيرية. وقد لا نغالي إن قلنا إن الأحداث لم يشهد مثلها كوكبنا الصغير ربما منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، أي قبل نحو 70 عقدا.
والملاحظ أننا لسنا أمام حدث واحد ضمن نطاق زمن محدد. الأحداث تتلاحق متحدية التوقعات حتى إن أتت من أكثر مراكز الأبحاث شهرة في العالم. وكل ما نلاحظه كان أشبه بالنار تحت الرماد، أطلقت شرارته الحرب المستعرة في أوروبا.
هذه الحرب ليست حربا عادية مثل الحروب والصراعات التي تقع في العالم الثالث، أو عالم الجنوب. هذه الحروب والصراعات كان يغذي ماكينتها الغرب ولا يزال، والعمل على إبقائها لم يكن في الأغلب ضمن مصالحه الاستراتيجية.
هذه الحرب التي تطحن الأخضر واليابس تدور رحاها في عالم الشمال، أو العالم المتمدن الذي بنى استراتيجية واضحة على إبقاء الصراعات في عالم الجنوب لأطول فترة ممكنة، لا بل تغذيتها كي تستعر. السلاح الذي حارب ويحارب به الفقراء في عالم الجنوب أغلبه سلاح غربي. ومنذ نحو 70 عاما كان السلاح الغربي في الأغلب يستخدم خارج نطاق جغرافية الدول الغربية التي تنتجه.
الحرب الحالية في أوروبا سلاحها الدول المصنعة والمصدرة للسلاح. استهلاك السلاح في هذه الحرب وصل حد الجنون إلى درجة أن مصانع الدول الغربية ذاتها لم يعد في إمكانها تلبية ما يحتاج إليه الجيش الأوكراني من ذخيرة. والشأن قد لا يختلف كثيرا، حسب ما نقرأ في الصحافة الغربية، عند تعلق الأمر بروسيا، حيث توجهت إلى استيراد السلاح من دول أخرى.
هذا السرد ليس بيت القصيد، لكن قد يضع ما نصبو إليه في هذا المقال ضمن سياقه: وسياق موضوعنا فيه تسليط بعض الضوء على عصر صار في مقدور دول كثيرة العمل على اتباع سياسة التوازن بدلا من التحيز، أو بالأحرى الوقوف على جانبي السياج فكرا واستراتيجية وعملا وقولا. والدول التي في إمكانها تتبع نهج مثل هذا مكتوب لها القيادة ضمن محيطها، والتأثير خارج نطاق جغرافيتها، ومن ثم دخول معترك الدول الكبيرة والمؤثرة. هناك دول عديدة منحتها الحرب في أوروبا فرصة ذهبية كي توازن سياساتها خدمة لشعوبها أولا وآخرا، وتبتعد عن التحيز لطرف ضد آخر.
نحن هنا لا نتحدث عن الحياد بشكله السلبي أو الإيجابي. ما نلاحظه بروز سياسة أساسا لم تعد تؤمن قولا وممارسة بالوقوف في صف قطب ضد آخر، وصارت مسألة الشراكة بالنسبة إليها تعني الحق في اتخاذ القرار استنادا إلى المصلحة الوطنية. وأفضل نموذج لهذه السياسة هو ما تبنيه المملكة العربية السعودية من استراتيجية تقع في هذه الخانة، ما جعلها محط أنظار العالم. هناك في واقع الحال دول أخرى تتبع النهج ذاته مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وحتى الصين، ولا سيما في أعقاب ما أفرزته الحرب من مستجدات على الساحة الدولية، بيد أن المملكة لها دور قيادي في هذا المضمار.
ولماذا هناك اهتمام كبير بالاستراتيجية التي تتبعها المملكة؟ الجواب، في رأيي واضح. للمملكة ثقل هائل في عدة مضامير وليس فقط مضمار الطاقة التي لا تبزها فيه أي دولة أخرى في العالم.
لا حاجة إلى درج التبعات ذات التأثير الإيجابي البارز لاستراتيجيتها، لكن هنا تحضرني ثلاثة ميادين كل واحد منها يحتاج إلى وقفة قصيرة، أي فقرة أو فقرتين من السرد في إطار الموضوع هذا.
في رأيي، تأتي رؤية المملكة كي تصبح دولة تفطم نفسها عن الاعتماد البالغ على الريع النفطي من خلال تنويع الاقتصاد وبناء بنى تحتية فائقة التطور في مقدمة الأولويات في إطار النهج الاستراتيجي هذا. ما تخصصه المملكة من موارد وما تستثمره في هذا المضمار لا بد أن يحدث نقلة كبيرة تقربها من مصاف الدول المتطورة، كل ما يحتاج إليه الناس في هذا البلد هو الركض لإنجاز الخطط الموضوعة بعناية وعدم القعود. ويأتي النهج السياسي ضمن هذه الأولويات أيضا لأنه يؤطر الحركة صوب النهضة بالاقتصاد في جميع حلقاته والتعليم والصحة والبناء والتعمير وغيره.
هذا النهج الذي يضع مصلحة البلد والمنطقة فوق أي شيء آخر، بدأ يأتي أكله، ونظرة خاطفة إلى النشاط السياسي للمملكة حتى على مستوى أسبوع واحد يقدم أكثر من دليل.
والنقطة الثالثة، في ظني، تكمن في استقلالية القرار، بمعنى إن كان هناك انحياز فهو للمصلحة الوطنية ومصلحة المنطقة. التوازن، لا يعني الحياد، بل العمل على استقطاب ما يمكن استقطابه، مع التشبث باستقلالية القرار، لدعم وترسيخ الاستراتيجية. وانظر صوب سياسة المملكة ضمن إطار المنطقة، تر تعزيزا لنهج التوازن حيث أنظار أغلب دول الشرق الأوسط حاليا شاخصة صوب الرياض. وانظر إلى استقلالية القرارات الخاصة بإنتاج النفط، والتوازن المثير للإعجاب في العلاقات مع الغرب والشرق في آن واحد. دخلنا عصر التوازنات من أوسع أبوابه، ويبدو أن "الحياد" بمفهومه التقليدي صار في خبر كان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي