المدن الاقتصادية بعد الجائحة «4»

حتى مع التسليم بأن المدن ستظل قوية عموما، فقد تستمر معاناة فرادى المدن. فأنماط النجاح الحضري منذ 2019 تشبه إلى حد كبير مثيلاتها خلال مرحلة ما بعد الحرب في أمريكا. فقد أبلت مدن حزام الشمس، مثل أوستن وتكساس وفينيكس وأريزونا، بلاء حسنا للغاية، كما يتجلى في زيادة أسعار المساكن أو مستويات التوظيف وبناء المساكن. وبالفعل فربما تجاوزت أسواق الإسكان سقفها في هذه المناطق، وتشهد عملية تصحيح في المستقبل القريب.
وفي الوقت نفسه، كانت المعاناة حاضرة خصوصا في المدن الواقعة في المنطقة المعروفة بحزام الصدأ. فبالنسبة إلى الشركات العاملة في مدن مثل شيكاغو ودیترویت، ربما تزداد أهمية الاتصال المرئي من بعد كأداة تواصل مع الموردين والعملاء منه كأداة لتسهيل العمل من بعد. فالشركات التي تم إنشاؤها في منطقة شيكاغو لوب لتسهيل التواصل مع المحاسبين والمحامين، يسهل عليها حاليا الانتقال إلى ميامي واستخدام البنية الخدمية هناك. ويظل من الضروري حضور الاجتماعات المهمة بصورة شخصية، بينما يمكن إجراء الفعاليات التي يغلب عليها الطابع الروتيني عبر شبكة الإنترنت. وقد تفضل الشركات الناشئة الطموحة التي فاض بها الكيل من أسعار وادي السيليكون، الانتقال إلى أوستن على التخلي التام عن مكاتبها والعمل من المنزل. ويشير هذا المنطق إلى أن المنافسة قد اشتدت على استقطاب المواهب العالمية، الأمر الذي سيصب في مصلحة المناطق التي توفر سبل الراحة التي تستهوي تحديدا العمالة الماهرة.
وعلى الرغم من أن مدن العالم النامي عادت إلى العمل، فإن اقتصاداتها لا تزال تعاني الكساد في حالات كثيرة. وعلى عكس الولايات المتحدة واقتصادات أخرى متقدمة لا تستطيع هذه الدول أن تضخ في اقتصاداتها تريليونات الدولارات لتمويل التدابير التنشيطية اللازمة للتخفيف من أثر الانهيار الذي أحدثته جائحة كوفيد وتزداد صعوبة الاقتراض في الدول الفقيرة، ما يجعل الموارد الداخلية أكثر أهمية. فحسب البيانات الصادرة عن البنك الدولي، شهد إجمالي الناتج المحلي لقارة إفريقيا تراجعا بـ2 في المائة خلال 2020، وربما لا يعكس ذلك الضرر الاقتصادي الحقيقي الواقع على كثير من المجتمعات المحلية، ما يدعو إلى القلق البالغ أن معدلات التطعيم في المناطق الأكثر فقرا من العالم لا تزال منخفضة. ويمثل انخفاض معدلات التطعيم مشكلة في حد ذاته، لأنه يعني أن عدد الوفيات جراء كوفيد - 19 سيزداد في الدول الفقيرة. وقد تظهر سلالات متحورة جديدة من كوفيد في الدول الفقيرة وتنتشر من هناك. ففي العقود الستة الأخيرة، نشأ معظم "الأحداث ذات الآثار الانتشارية" ـ الأزمات الصحية التي تؤدي إلى انتشار مرض ما خارج حدود البلد ـ في بعض المناطق الأشد فقرا من العالم.
ففي المناطق التي تعاني الفقر، في الأغلب ما يكون الناس أكثر مخالطة للكائنات البرية التي تحمل الأمراض، وتعيش نواقل العدوى مثل البعوض لفترات طويلة بسبب محدودية خدمات الصرف الصحي. وبالتالي، يبدو أن العالم يخوض تجربة علمية صعبة تجعله في حالة ترقب لأي وباء جديد قد يظهر مستقبلا في المناطق فقيرة الموارد وغير الخاضعة للرقابة، لينتشر من هناك إلى مختلف أرجاء العالم. ما الذي يمكن فعله للحد من خطر ظهور جائحة جديدة؟ يقدم صندوق النقد الدولي نموذجا للدور الذي يمكن أن تضطلع به الدول الغنية في مساعدة الدول الفقيرة مقابل إصلاح السياسات. ومن الممكن أن يتم تكييف هذا النموذج بسهولة من أجل منع حدوث جوائح في المستقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي