كيف نتعلم الزعامة في الأنظمة الديمقراطية؟

تؤكد استطلاعات الرأي العام أن المواطنين في عديد من الدول الديمقراطية غير راضين عن زعمائهم. ويصدق هذا بصورة خاصة في بريطانيا، حيث استخدم عدد من أعضاء البرلمان بدَلاتهم السكنية لتعزيز دخولهم، بطرق مشروعة أحياناً وغير مشروعة في أحيان أخرى. وطبقاً لتقديرات بعض المحللين فإن نصف أعضاء البرلمان البريطاني الحالي فقط قد يعاد انتخاباهم في العام المقبل.
ولكن بعيداً عن إخفاقات بعض المشرعين البريطانيين فإن القضية لا تنحصر على الإطلاق في مسألة السماح للناخبين بـ "التخلص من الأوغاد". فهناك أيضاً مسألة تتعلق بكيفية تعليم وتعلُم الزعامة الناجحة في أي نظام ديمقراطي. إن نجاح الديمقراطية يتطلب انتشار الزعامة على نطاق واسع في مختلف قطاعات الحكومة والمجتمع المدني. والمواطنون الذين يعربون عن قلقهم إزاء الزعامة لا ينبغي لهم أن يكتفوا بتعلُم كيفية الحكم على الزعامة، بل يتعين عليهم أيضاً أن يتعلموا كيف يمارسونها بأنفسهم.
يقول عديد من المراقبين إن الزعامة فن أكثر من كونها علماً. والزعامة الحسنة ترتبط دوماً بالظروف التي تحيط بها. وفي كتابي "قوى الزعامة" أسمي هذه المهارة "الذكاء الظرفي". إن القدرة على تحريك مجموعة من الناس بفاعلية هي بلا شك فن أكثر من كونها علماً، وهو فن يتشكل ويتنوع بتنوع المواقف واختلافها، ولكن هذا لا يعني أنه ليس من المفيد أن ندرس هذا الفن ونتعلمه.
إن الموسيقى والرسم يعتمدان جزئياً على المهارات الفطرية، ولكنهما يستندان أيضاً إلى التدريب والممارسة. ويستطيع الفنان أن يستفيد ليس فقط من المناهج الفنية البحتة بل أيضاً من دروس تذوق وتقدير الفنون التي تعرض عليهم الأعمال الكاملة لسادة الفنون الذين سبقوهم.
ويتسنى تعلُم الزعامة أو القيادة بمجموعة متنوعة من الأساليب. والتعلم من الخبرة هو أكثر أنواع التعلم شيوعاً وقوة. فهو يساعد في إنتاج المعرفة الضمنية التي تشكل أهمية حاسمة في أوقات الأزمات. بيد أن الخبرة والحدس يمكن تكميلهما بالقدرات التحليلية، وهذا هو الهدف من كتابي. وكما لاحظ مارك توين ذات مرة، فإن الهر الذي يجلس مصادفة على موقد ساخن لن يجلس عليه مرة أخرى أبداً، ولكنه أيضاً لن يجلس على موقد بارد أبداً.
وعلى هذا فإن تعلُم تحليل المواقف والسياق المحيط يشكلان أهمية كبيرة لمهارة القيادة. ويصنف جيش الولايات المتحدة تعلُم القيادة تحت ثلاث كلمات: "كُن، اعرف، افعل". وتشير "كُن" إلى صياغة الشخصية والقيم، وهذا يتأتى من التدريب جزئياً ومن الخبرة جزئياً. وتشير "اعرف" إلى التحليل والمهارات، التي يمكن التدرب عليها. أما "افعل" فتشير إلى التصرف، وهي تتطلب كلاً من التدريب والعمل الميداني. غير أن الخبرة تأتي في المقام الأول من الأهمية، ويليها التأكيد على التعلم من الأخطاء والعملية المتواصلة الناتجة عما يطلق عليه في الجيش "مراجعات ما بعد العمل".
والتعلم من الممكن أن يحدث أيضاً في حجرة الدرس، سواء من خلال دراسة الحالة، أو التناول التاريخي والتحليلي، أو التعليم القائم على الخبرات التجريبية، الذي يحاكي مواقف يتدرب الطلاب من خلالها على زيادة وعيهم الذاتي، والتمييز بين الأدوار المطلوبة منهم وبين ذواتهم، واستخدام أنفسهم كأدوات لفهم مجموعة أكبر من الناس. وعلى نحو مماثل، يستطيع الطلاب أيضاً أن يتعلموا من نتائج الدراسات العلمية، وإن كانت محدودة، ومن خلال دراسة مجموعة من السلوكيات والسياقات التي قد تضيئها الأحداث التاريخية.
في الممارسة العملية، بطبيعة الحال، يحتل قِلة من الناس المناصب العليا في الجماعات أو المنظمات. وغالبية الناس "يقودون من الوسط". والقيادة الفاعلة من الوسط كثيراً ما تتطلب جذب وإقناع هؤلاء الذين يحيطون بك من أعلاك وأدناك وعلى جانبيك.
والحقيقة أن قادة الوسط كثيراً ما يجدون أنفسهم في خواء سياسي مع تضاؤل التوجيهات الواضحة القادمة من القيادات الأعلى. والتابع السلبي يبقي رأسه منخفضاً ويتحاشى المجازفة ويتجنب الانتقاد. أما الانتهازي فيستغل الفراغ لتحقيق مصالحه الشخصية بدلاً من مساعدة القائد أو جمهور الناس.
ومن ناحية أخرى يستغل البيروقراطيون مثل هذه الفرص لتكييف السياسات وتعزيزها. والسؤال الأخلاقي الرئيسي هنا هو ما إذا كانت أنشطة هؤلاء البيروقراطيين قد تتجاوز حدود السياسات التي تم وضعها من القمة، وعند أي نقطة قد يحدث ذلك. وبما أنهم يفتقدون السلطة الشرعية التي يتمتع بها المسؤولون المنتخبون أو كبار المسؤولين المعينين، فلا بد أن يظل البيروقراطيون مدركين للحاجة إلى إيجاد نوع من التوازن بين المبادرة والولاء.
ويتعين على القادة أن يشجعوا مثل هذه الروح بين أتباعهم كوسيلة لزيادة فاعليتهم وكفاءتهم. ذلك أن السبيل الرئيس إلى القيادة الناجحة يكمن في إحاطة القائد لنفسه بخيار الناس، وتمكينهم من خلال تفويضهم بالسلطات والصلاحيات، ومن ثَـم نيل الفضل فيما يتحقق من إنجازات.
بيد أن إنجاح هذه الصيغة يتطلب قدراً كبيراً من القوة الناعمة. فبدون القوة الناعمة التي تعمل على جذب الناس وتوجيه إخلاصهم نحو تحقيق أهداف القائد، فإن التابعين البيروقراطيين يتحركون في مختلف الاتجاهات فتتبدد بذلك طاقات المجموعة. ولكن مع القوة الناعمة تعمل طاقات الأتباع الممكنين على تعزيز سلطة القادة.
إن الزعامة تتوزع على نطاق واسع في مختلف قطاعات الأنظمة الديمقراطية، ويتعين على جميع المواطنين أن يتعلموا مزيدا عن العناصر التي تجعل القائد ناجحاً أو فاشلاً. ويستطيع القادة المحتملون بدورهم أن يتعلموا مزيدا عن مصادر وحدود مهارات القوة الناعمة المترتبة على الذكاء العاطفي، والبصيرة، والاتصالات، فضلاً عن المهارات السياسية والتنظيمية للقوة الصارمة.
يتعين عليهم أيضاً أن يسعوا إلى تكوين فهم أفضل لطبيعة الذكاء الظرفي الذي سيحتاجون إليه لتثقيف حدسهم الفطري ودعم استراتيجيات القوة الذكية. والأهم من ذلك في عصر اليوم الذي تحكمه العولمة وتكنولوجيا المعلومات الثورية أن يتعلم المواطنون في البلدان الديمقراطية مزيدا عن طبيعة وحدود المطالب الجديدة المفروضة على الزعامة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي