تقارير و تحليلات

سياسات الفيدرالي تغرق في المحلية .. رفع الفائدة لا ينهي متاعب الاقتصاد العالمي

سياسات الفيدرالي تغرق في المحلية .. رفع الفائدة لا ينهي متاعب الاقتصاد العالمي

سياسات الفيدرالي تغرق في المحلية .. رفع الفائدة لا ينهي متاعب الاقتصاد العالمي

بات التضخم مشكلة عالمية ضاغطة على الجميع بكل معنى الكلمة، ففي نهاية آب (أغسطس) الماضي كان معدل ارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة 8.3 في المائة و9.1 في المائة في منطقة اليورو و9.9 في المائة في المملكة المتحدة وفي نيجيريا 20.3 في المائة و25 في المائة في ملاوي وأكثر من 30 في المائة في أثيوبيا وغانا و52.2 في إيران.
أما في تركيا فحدث ولا حرج، إذ تجاوز معدل التضخم السنوي وللشهر الخامس على التوالي حاجز 80 في المائة وهو مستوى قياسي لم يحدث منذ 1998.
مع هذا لا يوجد اتفاق قاطع وجازم حول سبب ارتفاع معدلات التضخم بهذا الحد، ويرى بعض الخبراء أن المشكلة تكمن في جانب العرض في المقام الأول، نتيجة الاضطراب الحادث في سلاسل التوريد الناجم عن وباء كورونا، وإصرار الصين على اتباع سياسة "صفر كوفيد" التي تؤدي إلى إغلاق المدن والبلدات ومن ثم عدم ضخ ما يكفي من السلع في الأسواق الدولية، أضف إلى ذلك الحرب الأوكرانية التي أدت إلى انخفاض المعروض من مجموعة من السلع الاستراتيجية مثل الوقود والأسمدة والمواد الغذائية، ما أدى إلى ارتفاع أسعارها.
وتعتقد مجموعة أخرى من الخبراء أن التضخم يعود إلى السياسات النقدية الفضفاضة للبنوك المركزية خاصة مجلس الاحتياطي الفيدرالي "البنك المركزي الأمريكي"، التي تبناها منذ الأزمة المالية 2008، فأسعار الفائدة المنخفضة لأعوام وسيساسات التيسير الكمي وضخ تريليونات الدولارات في الأسواق الدولية عبر شراء السندات في الأسواق المالية، أتاح كميات غير مسبوقة من الأموال للبنوك التجارية والبنوك الاستثمارية وشركات إدارة الأصول والأسهم الخاصة وصناديق التحوط والتقاعد وشركات التأمين، تلك التدفقات المالية الضخمة بدأت آثارها السلبية تظهر في شكل الزيادة في معدلات التضخم.
اختلاف وجهتي النظر حول أسباب المشكلة أدى إلى اختلاف آخر يتعلق بسبل حل معضلة ارتفاع الأسعار عالميا، فوفقا لوجهة النظر الأولى يمكن حل المشكلة بزيادة المعروض من السلع، ومن ثم فإن الأسعار المرتفعة في الوقت الحالي ستحفز الشركات على زيادة الإنتاج، وسينخفض التضخم في نهاية المطاف.
المعسكر الثاني يرى أن البنوك المركزية يجب أن ترفع أسعار الفائدة وتتخلص من سياسة التيسير الكمي، ورغم إدراك أنصار هذا الاتجاه أن ذلك سيؤدي إلى انخفاض الطلب وإبطاء النمو الاقتصادي وربما ارتفاع معدلات البطالة، فإن المؤكد أن اقتراض الشركات والأسر والحكومات سيصبح أكثر تكلفة، والنتيجة الحتمية ستكون انخفاض الأسعار وتراجع التضخم.
باختصار المعسكر الثاني يرى أن التضخم مشكلة نقدية، والحل في يد البنوك المركزية وتحديدا كبيرها وسيدها إذا جاز التعبير مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أي البنك المركزي الأمريكي، ومن وجهة أنصار هذا المعسكر فإن كبير البنوك المركزية في العالم يتمتع بنفوذ مفرط على الاقتصاد الدولي، وستكون قراراته، وإن بدت أنها تستهدف الاقتصاد الأمريكي، فإنها تصلح في الوقت ذاته دفة الاقتصاد الدولي.
لكن هل يؤمن الاحتياطي الأمريكي بتلك الفكرة، وهل لديه القناعة بأن نفوذه المفرط على الاقتصاد العالمي يتطلب منه أن يتصرف في بعض الأحيان بمسؤولية أكبر مما يقوم به الآن؟
يرى الدكتور اس. دي. داني الاستشاري السابق في اللجنة المالية لبنك إنجلترا أن الفيدرالي الأمريكي يتصرف "بأنانية شديدة" وأنه غير معني بالاقتصاد العالمي إلا بمقدار ما يخدم المصالح الأمريكية، حيث إن قراراته لم ترتق إلى مستوى الوعي المطلوب بأهمية وخطورة دوره الدولي، وهذا يزيد مشكلات التضخم على المستوى العالمي حدة، فالاقتصاد الأمريكي شديد الارتباط بالاقتصاد الدولي، وإذا لم يأخذ المجلس الفيدرالي الأمريكي في حسبانه المساعدة على خفض التضخم في الدول الأخرى، فإن ارتفاع الأسعار عالميا سيواصل "التسرب" من الاقتصادات الأخرى إلى الاقتصاد الأمريكي.
ويعلق لـ"الاقتصادية" قائلا "ترجع قوة الفيدرالي الأمريكي في المقام الأول إلى هيمنة الدولار الأمريكي الذي ارتفعت قيمته في الأشهر الأخيرة في مواجهة غيره من العملات الدولية، فالزيادات الحادة في أسعار الفائدة جعل العملة الأمريكية أكثر جاذبية للمستثمرين، لكن هذا له جانب سلبي في اقتصادات الدول الأخرى، لأنه يرفع تكلفة الاقتراض ويزيد من مخاطر حدوث ركود عالمي".
من المسلم به في الأدبيات الاقتصادية أن سياسات الاحتياطي الفيدرالي تؤثر في الاقتصادات والشركات والمواطنين في كل دول العالم تقريبا، وجزء من هذا التأثير يعود إلى حجم الاقتصاد الأمريكي، إذ لا يزال الأكبر إلى حد بعيد من حيث القيمة المطلقة، كما أن نصف ديون العالم مقومة بالدولار، ما يعني أن الدول بحاجة إلى دفع الفوائد وسداد أصل رأس المال المقترض بالدولار، ومنذ بداية العام ارتفعت قيمة الدولار بنحو 15 في المائة تقريبا مقارنة بسلة من العملات الأجنبية، وهذا يعني أن تمويل تلك الديون المقومة بالدولار بات أكثر تكلفة الآن بنسبة 15 في المائة في المتوسط وبالنسبة إلى بعض الدول يمكن أن يكون أكثر من ذلك بكثير.
الخبير المصرفي تي ناث يعلق لـ"الاقتصادية" قائلا "مع مواصلة البنك المركزي الأمريكي رفع أسعار الفائدة فإنه لا يبدو في الأفق نهاية للمشكلات الاقتصادية التي يواجهها الاقتصاد العالمي، وفي الوقت الراهن يشعر رجال الأعمال والخبراء على حد سواء بالمتاعب الاقتصادية التي يسببها ارتفاع الدولار خاصة في الاقتصادات الناشئة، وعديد من محافظي البنوك في تلك الدول انتقدوا الولايات المتحدة لإلحاقها الضرر ببقية العالم، فالزيادة المتواصلة في أسعار الفائدة قرار أناني، ويدفع الحكومات في الاقتصادات الناشئة والنامية إلى زيادة الضرائب أو الاقتراض بتكلفة أعلى لخدمة الديون".
وفي الواقع فإن سياسات "الفيدرالي الأمريكي" لم تعد ضاغطة فقط على الاقتصادات الناشئة، إنما على الاقتصادات الأوروبية أيضا، وينظر الخبراء في القارة الأوروبية إلى تلك السياسات وما أدت إليه من ارتفاع قيمة العملة الأمريكية، على أنها توجد مشكلات لهم في وقت تكون فيه دول القارة الأوروبية في أشد الحاجة إلى تفادي أي مشكلات اقتصادية، فقد انخفض اليورو في مواجهة الدولار بشدة هذا العام، ووصل الجنيه الاسترليني إلى أدنى مستوى له في مواجهة العملة الأمريكية منذ 37 عاما، أما الين الياباني ففقد 20 في المائة من قيمته.
في ظل تلك الأوضاع ومع ارتفاع الدولار الأمريكي لمستويات قياسية، تستخدم مختلف الدول طرقا متعددة لتعويض تأثير ارتفاع الدولار في سوق العملات واقتصادها الوطني.
ولـ"الاقتصادية" تعلق الدكتورة تينا بلانك أستاذة النقود والبنوك في جامعة ليستر البريطانية قائلة "هناك مخاوف جادة من بروز مشكلات عميقة في جميع مناحي الاقتصاد العالمي، ولهذا نجد البنك المركزي في كوريا الجنوبية على سبيل المثال طلب من متداولي الصرف الأجنبي تقديم تقارير كل ساعة عن الطلب على الدولار، وتكثف السلطات في سيئول الإشراف على أسواق العملات للمساعدة على وقف تراجع العملة المحلية. أوروبا تنوي الرد على زيادة أسعار الفائدة الأمريكية وجاذبية الدولار بزيادة أسعار الفائدة على اليورو لزيادة جاذبيته".
ويعتقد بعض الخبراء أن الوضع الحالي للدولار الناجم عن سياسات "الفيدرالي الأمريكي" المغرقة في محليتها التي تتجاهل تأثير قراراتها في الاقتصاد العالمي، قد تعزز جهود بعض الدول لتقليل اعتمادها على الدولار، لكن الأمر ستختلف وتيرته من منطقة إلى أخرى، فبينما ستكون بطيئة في منطقة أوروبا ودول الاتحاد الأوروبي بسبب عمق العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة، فإن حملة هذا النوع قد تكون أكثر رواجا في دول أمريكا اللاتينية وآسيا، دون أن تكون لديها الجرأة أو المقدرة التامة لتحدي هيمنة العملة الأمريكية.
وربما تشهد الفترة المقبلة اتجاه مزيد من الدول إلى تعزيز الأصول المقومة بالعملة الصينية اليوان لديها، ليس فقط لتقليل الاعتماد على الدولار، لكن للطبيعة المستقرة للعملة الصينية.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات