تقارير و تحليلات

لندن تفقد طوق النجاة الأمريكي في أزمتها .. اتفاقية التجارة الحرة بعيدة المنال

لندن تفقد طوق النجاة الأمريكي في أزمتها .. اتفاقية التجارة الحرة بعيدة المنال

لندن تفقد طوق النجاة الأمريكي في أزمتها .. اتفاقية التجارة الحرة بعيدة المنال

كانت التسريبات القادمة من كبار المسؤولين البريطانيين قبل أسبوع واحد تشير إلى أن إبرام اتفاقية تجارة حرة بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة، بات بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى.
وراء تلك التوقعات كان يقف عديد من الأسباب، فالرئيس الأمريكي جو بادين كان مقررا له أن يشارك في تشييع جثمان ملكة بريطانيا الراحلة اليزابيث الثانية، ورغم أن الزيارة لن تتضمن مباحثات تفصيلية مع ليز تراس رئيسة الوزراء الجديدة، إلا أن الحكومة البريطانية الجديدة كانت في حاجة ماسة إلى أن تحصل على إجابة قاطعة ومحددة من واشنطن بشأن مساعيها لتوقيع اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة لترتيب أوراقها في المرحلة المقبلة.
وجاء ذلك مع تفاقم حدة الأزمة الاقتصادية داخليا، والهبوط الشديد في سعر الجنية الاسترليني مقابل الدولار، ومن الواضح للغاية أن واشنطن وقبل مجيء بايدن إلى لندن كانت تبعث برسائل إلى العاصمة البريطانية بأن توقيع الاتفاق غير مرجح في الوقت الراهن.
هذا الوضع دفع ليز تراس رئيسة الوزراء البريطانية إلى قطع الشك باليقين، فاستبقت رحلتها إلى الولايات المتحدة للمشاركة في أعمال الدورة الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك ولقائها المرتقب بالرئيس جو بايدن بإعلان واضح بأنه لا توجد أي مفاوضات مع الولايات المتحدة بشأن عقد اتفاق تجاري بين البلدين، وأنها لا تتوقع أن تبدأ هذه المفاوضات على المديين القصير أو المتوسط.
تصريحات ليز تراس جاءت بمنزلة صفعة قوية لأنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فقد وعدوا بإبرام اتفاق تجارة حرة مع الولايات المتحدة بحلول عام 2022، إذا خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وفي الواقع فإن توقيع اتفاق كهذا بين البلدين كان بمنزلة طوق النجاة للمملكة المتحدة في أزمتها الاقتصادية الراهنة، ومخرجا لها من علاقتها الاقتصادية المتأزمة يوما بعد آخر مع الاتحاد الأوروبي.
وفي هذا السياق، قال لـ"الاقتصادية" الدكتور ستيفن ويبر أستاذ التجارة الدولية في جامعة أكسفورد، إن "صفقة تسهيل التجارة البينية بين البلدين تعد جوهرة ثمينة للتاج البريطاني خاصة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، فالولايات المتحدة أكبر شريك تجاري فردي لبريطانيا، ومن بين كل ستة جنيهات استرلينية من التجارة الخارجية للمملكة المتحدة، فإن التجارة مع الولايات المتحدة تمثل جنيها واحدا".
لكن لماذا ترفض الولايات المتحدة إبرام صفقة تجارية مع بريطانيا؟
يرى الدكتور ستيفن ويبر أن الأولويات التجارية والاقتصادية للولايات المتحدة تحول دون توقيع اتفاقية تجارية مع بريطانيا حاليا، فمثل تلك الاتفاقية يمكن أن تكون لها انعكاسات سلبية على التوظيف في بعض القطاعات الأمريكية، ومع اقتراب الانتخابات النصفية في الكونجرس، والتضخم المرتفع في الولايات المتحدة وتأثيره السلبي في شعبية الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض، فإن اتفاقية كتلك تؤثر في التوظيف وتنعكس سلبا على شعبية الحزب الديمقراطي.
ويرى آخرون أن عدم رغبة واشنطن في توقيع اتفاقية تجارية مع لندن ينبع من عدم سعادة البيت الأبيض أو ترحيبه بالموقف البريطاني مع الاتحاد الأوروبي، والتوتر الراهن بسبب أيرلندا الشمالية، فالقناعة تسود لدى البيت الأبيض بأن لندن وتحديدا ليز تراس رئيسة الوزراء ترمي إلى الإخلال بالاتفاق مع الاتحاد الأوروبي بشأن أيرلندا الشمالية.
وأوضح أنه يصعب أن تقبل الإدارة الديمقراطية في واشنطن بهذا، إذ يمكن أن يعود العنف مجددا إلى أيرلندا الشمالية، ما يمثل إعلانا بفشل اتفاقية الجمعة العظيمة التي أشرف عليها الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون، كما أن الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن يفخر دائما بأصولية الأيرلندية.
وبالفعل فقد كان رد البيت الأبيض على 10 داوننج ستريت واضحا للغاية، بأن أي تغير من جانب واحد في بروتوكول أيرلندا الشمالية المتضمن في اتفاقية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سيؤدي إلى مشكلات في العلاقات الخاصة بين الولايات المتحدة وبريطانيا.
لكن تلك الأسباب التي تجد جذورها في عالم السياسية أكثر منه في عالم الاقتصاد، بطريقة تظهر الرفض الأمريكي لإبرام اتفاق تجارة حرة مع بريطانيا وكأنه نوع من أنواع العقاب الاقتصادي لمواقف سياسية، ورغم عدم استبعاد إقدام واشنطن على هذا النوع من السلوك حتى مع أقرب حلفائها في العالم، فإن بعض الخبراء يرى أن سبب إخفاق الطرفين في التوصل إلى اتفاق تجاري مرجعه وجود كثير من التناقضات في الفلسفة التجارية السائدة في البلدين في الأعوام الأخيرة.
من جانبه، قال لـ"الاقتصادية" البروفيسور إل.دي. مارتن أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جلاسكو، إنه "بالنسبة إلى حكومة المملكة المتحدة يعد الخروج من الاتحاد الأوروبي فرصة لتعميق علاقاتها التجارية مع بقية العالم، ولتحقيق هذه الغاية وقعت لندن بالفعل اتفاقيات تجارة حرة جديدة مع أستراليا ونيوزيلندا وتجري محادثات مع الهند والمكسيك وكندا ودول الخليج العربي، إلى جانب استعدادها للانضمام إلى الاتفاقية الشاملة والمتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادئ". وأضاف "بينما يتعافى الاقتصاد العالمي من الاضطرابات الناجمة عن جائحة كورونا ويصارع التداعيات الكارثية للحرب الروسية لأوكرانيا، ترى حكومة المملكة المتحدة أن التفاوض بشأن اتفاقيات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة جزء رئيس من أجندتها الاقتصادية والجيوسياسية."
وبذلك ترى بريطانيا باختصار، أن توقيع اتفاقية التجارة الحرة أمر مفيد اقتصاديا، من أجل التجارة والربح والانتعاش الاقتصادي.
الأمر يبدو مختلفا جدا في واشنطن، فالرئيس ترمب عارض الشراكة عبر المحيط الهادئ التي تفاوضت عليها إدارة أوباما، ومن ثم فإن الإيمان بحرية التجارة وهو المفهوم الذي قاد السياسة التجارية للولايات المتحدة عقودا من الزمان تراجع، وبات المفهوم الجديد أن التجارة يجب النظر إليها كأداة لتعزيز المصالح الأخرى بدلا من أن تكون التجارة غاية في ذاتها، ولاحقا تعهد الرئيس بايدن بعدم الموافقة على صفقات تجارية جديدة، حتى يقوم أولا باستثمارات كبيرة في السوق الأمريكية، ويضمن وظائف للعمال، لذلك يلاحظ أن إدارته تحركت بحذر في مراجعة التعريفات التي فرضتها إدارة ترمب على السلع الصينية والأوروبية ولم توقع إداراته اتفاقيات تجارة حرة تقليدية قائمة على الوصول المتبادل إلى الأسواق. وبذلك واشنطن لا تؤمن حاليا بالتجارة الحرة من أجل التجارة، كبريطانيا. وبالفعل، فإنه عند النظر إلى رؤية الإدارة الأمريكية الحالية إلى التجارة العالمية سنجدها تعمل على تطوير ترتيبات تجارية جديدة مع شركاء آسيويين وأوروبيين، ومن أبرز هذه الترتيبات الإطار الاقتصادي للمحيطين الهندي والهادئ الذي يتم التفاوض عليه حاليا مع عدد من دول آسيا والمحيط الهادئ، لكن تلك الترتيبات لا تعد اتفاقية تجارة حرة، إذ لا تشمل الوصول إلى الأسواق وإنما هي مجموعة التزامات تمس القطاعات والمعايير الرئيسة لسلاسل التوريد والضرائب.
إذن، اختلاف المفاهيم التجارية لدى بريطانيا والمملكة المتحدة هو الذي جعل من الصعب على الحلفين الرئيسين في المعسكر الغربي التوصل إلى اتفاق تجارة حرة، لكن هل يعني ذلك عدم وجود أرضية مشتركة بين البلدين بشأن التجارة؟
من جانبها، تعتقد ترسي وليام كبيرة الباحثين سابقا في المؤسسة الدولية للبحوث الاقتصادية، أن استبعاد إمكانية إبرام اتفاقية تجارة حرة بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة وابتعاد وجهة نظر البلدين بشأن القواعد والمؤسسات التي يجب أن تحكم التجارة، لا ينفي أن بينهما عديدا من القواسم المشتركة في مجال التجارة يمكن أن تمهد السبيل لتعاون تجاري مثمر.
وترى تريسي أن البلدين يتشاطران مخاوف بشأن ممارسات العمل التعسفية وتشديد العقوبات الاقتصادية على روسيا والصين، ويمكن لقيم كتلك أن توفر أرضية جيدة خاصة للتعاون التجاري خاصة في ظل التاريخ الطويل من الشراكة الجيوسياسية، والقوة الراهنة للتجارة البينية بينهما التي تقدر بـ270 مليار دولار.
ويأتي ذلك، بعد إعلان آن ماري تريفيليان وزيرة التجارة السابقة في الحكومة البريطانية، في 22 يونيو الماضي، انطلاق مفاوضات التجارة الحرة بين المملكة المتحدة ودول الخليج.
وفي الواقع، تسعى المملكة المتحدة جاهدة منذ أعوام إلى توقيع تلك الاتفاقية، على أمل أن تسهم في تعزيز الصادرات البريطانية إلى دول الخليج الست في مجال السلع والخدمات وزيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين والبالغ حاليا 33.1 مليار جنيه استرليني.
ويظهر تحليل حكومي بريطاني أن من المتوقع أن تؤدي اتفاقية مع دول مجلس التعاون إلى زيادة حجم التجارة بنسبة 16 في المائة على الأقل، وإضافة ما لا يقل عن 1.6 مليار جنيه استرليني سنويا للاقتصاد البريطاني، والمساهمة بمبلغ إضافي قدرة 600 مليون جنيه استرليني أو أكثر في الأجور السنوية للعاملين البريطانيين، إضافة إلى استثمارات متبادلة في اقتصادات الطرفين بلغت 30 مليار جنيه استرليني على الأقل.
وفي الواقع فإن دول مجلس التعاون الخليجي بمجملها تعد سابع أكبر سوق للصادرات البريطانية، بينما تعد المملكة المتحدة ثالث أكبر سوق لصادرات دول المجلس، ويعزز هذا الوضع فكرة أن الاتفاقية التجارية بين الطرفين ستعود بالنفع عليهما معا.
ومثل تلك الاتفاقية في حال توقيعها ستعود بالنفع على منتجي المأكولات والمشروبات البريطانيين، الذين بلغت صادراتهم لمنطقة الخليج العربي نحو 625 مليون استرليني، ويتوقع أن تؤدي إلى خفض كبير في الرسوم الجمركية أو إلغائها بالنسبة إلى صادرات المملكة المتحدة من المأكولات والمشروبات. وتبدو لندن حاليا في أمس الحاجة إلى توقيع اتفاقية تجارية مع كتلة اقتصادية بقوة مجلس التعاون، وهو ما يعنى أن هناك فرصا للدول الخليجية لتحقيق مكاسب مع طرح استراتيجية متكاملة لا تركز فقط على التجارة وإنما تستهدف فتح الأبواب للاستثمار الخليجي لشراء الشركات العاملة في القطاعات البريطانية الاستراتيجية مثل صناعات التكنولوجيا والفضاء وتقنيات الطاقة المتجددة وعلوم الحياة والصناعات الإبداعية والتعليم والذكاء الاصطناعي والخدمات والمعادن، دون قيد أو شرط، خاصة أن الاستثمارات الخليجية دعمت أكثر من 25 ألف وظيفة في المملكة المتحدة عام 2019، وهو رقم أعلى بمعدل ثلاثة أضعاف عما كان عليه في العقد الماضي.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات