تقارير و تحليلات

خصخصة المياه .. أصوات تتعالى من أمريكا إلى البرازيل بحثا عن الابتكار وخفض التكاليف

خصخصة المياه .. أصوات تتعالى من أمريكا إلى البرازيل بحثا عن الابتكار وخفض التكاليف

خصخصة المياه .. أصوات تتعالى من أمريكا إلى البرازيل بحثا عن الابتكار وخفض التكاليف

تشهد المملكة المتحدة حاليا جدلا مثيرا للانتباه، فبعد أن كان موضوع الجدل محصورا بين المختصين والخبراء امتد اليوم إلى وسائل الإعلام والعامة من الناس.
القضية باختصار، تدور حول المياه والشركات المسؤولة عن إمداد المواطنين والمجتمع باحتياجاتهم منها. والسؤال المطروح للنقاش في بريطانيا بسيط، لكنه جوهري، هل تبقي المملكة المتحدة عملية إمداد المجتمع باحتياجاته من المياه والصرف الصحي في أيدي الشركات الخاصة كما تفعل حاليا، أم أن التجربة في حاجة إلى إعادة النظر فيها؟.
أحد الدوافع وراء تفجر القضية وطرحها على بساط البحث، جاء نتيجة تعرض شركات المياه في إنجلترا لانتقادات شديدة هذا الصيف، فالجفاف الحاد الذي عانته عديد من المناطق في المملكة المتحدة في تموز (يوليو) الماضي فتح الباب على مصراعيه لحديث قديم - جديد يتعلق بسؤال: هل من المصلحة العامة إخضاع شركات المياه لملكية الدولة أم أن مصلحة المستهلك تكمن في تخصيص شركات المياه؟.
بالطبع يستند كل طرف من الرافضين لتخصيص شركات المياه والمؤيدين للتخصيص على مجموعة من الأرقام التي تسند موقفه. فأنصار تخصيص شركات المياه يشيرون إلى أنه منذ بيع الحكومة البريطانية شركات المياه للقطاع الخاص عام 1989، استثمر قطاع المياه والصرف الصحي ما قيمته 160 مليار جنيه استرليني، وانخفض التسرب المائي بمقدار الثلث منذ منتصف التسعينيات، وتم تصنيف ثلثي الشواطئ الإنجليزية على أنها ممتازة، كما أن الاستطلاعات تكشف رضا العملاء عن خدمات المياه والصرف الصحي بنسبة 90 في المائة.
على الجانب الآخر، يقف الخصوم الداعون إلى استعادة الدولة سيطرتها على هذا القطاع الاستراتيجي، مستندين في الدفاع عن موقفهم على مجموعة متنوعة من الإحصاءات، فيوميا تفقد المملكة المتحدة ثلاثة مليارات لتر من المياه، نتيجة التسرب جراء تهالك أنابيب توصيل المياه، كما أن قضية التلوث باتت قضية مقلقة للغاية بالنسبة للأنهار الإنجليزية، حيث حققت 14 في المائة فقط من أنهار إنجلترا حالة بيئية جيدة، ويعود هذا الوضع السلبي إلى زيادة تصريف مياه الصرف الصحي في البحار والأنهار، ويمثل ذلك مشكلة معقدة ومكلفة، دفعت وكالة البيئة إلى المطالبة بإصدار أحكام بالسجن على المسؤولين عن تلويث الأنهار والبحار.
كما ارتفعت فواتير المياه 40 في المائة بالقيمة الحقيقية، وقدرت استثمارات 2018 على أنها أقل من استثمارات 1990، كما أن دعم المواطنين فكرة الملكية العامة للمياه تصل نسبتها حاليا إلى 83 في المائة، وبذلك تكون الدعوة إلى ملكية الدولة لشركات المياه أعلى من نظيرتها في أي مرفق آخر في المملكة المتحدة.
عدد من العوامل أسهمت في عودة النقاش في هذا الموضوع إلى الواجهة مجددا، لا شك أن الجفاف ونقص المياه كان عاملا أساسا وراء هذا الجدل المجتمعي، لكن هذا لم يكن السبب أو العامل الوحيد.
تواكب هذا الوضع السلبي مع عائدات كبيرة لصالح المساهمين والمستثمرين في شركات المياه البريطانية.
وقالت لـ"الاقتصادية" جلين سميث الخبيرة الاقتصادية في قضايا المياه: "القضية بدأت تطرح بقوة خلال جائحة كورونا، عندما بات عديد من الأشخاص والشركات نتيجة توقف النشاط الاقتصادي غير قادرين على دفع تكلفة فواتير المياه، والأمر لم يكن حصرا على المملكة المتحدة أو مقاطعة إنجلترا، ففي الولايات المتحدة انخفضت إيرادات بعض شركات المياه 40 في المائة، وحاليا لا يقل العجز العالمي المطلوب في مجال المياه والصرف الصحي عن 150 مليار دولار".
وأضافت "يلاحظ أن تصاعد الأصوات التي تدعو إلى تخصيص قطاع المياه كان إحدى نتائج جائحة كورونا. والدعوة تمتد من الاقتصادات المتقدمة إلى الناشئة، ففي ولاية فيلادلفيا الأمريكية تفكر السلطات حاليا وبشكل جدي في تخصيص المياه، وفي البرازيل تعمل حكومة الرئيس جايير بولسونارو على المضي قدما لتخصيص المياه، وفي إندونيسيا حيث شركات المياه شركات خاصة، تتراجع الحكومة عن وعودها بجعلها شركات عامة".
من جانبها، ذكرت الدكتورة نتاليا بدرسون أستاذة النظم الاستثمارية في جامعة شفيلد وأحد الأصوات البارزة في الدفاع عن تخصيص شركات المياه، أن مليارات الأرواح على المحك، لأن الماء ضرورة، والكفاءات المتضمنة في القطاع الخاص يمكن أن تلهم الابتكار وتشجع على مزيد من الوصول إلى هذا المورد في المستقبل، وأن الحجة الأساسية لتخصيص المياه مماثلة للحجة ذاتها في أي صناعة أخرى.
وتقول لـ"الاقتصادية": "إن الشركات الخاصة لديها حافز ربح للمتابعة، ما يعني أنها ستبحث عن طرق جديدة وأكثر فاعلية لخفض التكاليف والعمل بكفاءة أكبر، والحكومات ليس لديها الحافز نفسه، لأنها تستطيع دائما التطلع إلى دافع الضرائب لتوليد مزيد من الدخل".
مع هذا، فإن واقع الحال يشير إلى أن هناك مبالغات شديدة في أن تخصيص شركات المياه يحقق نتائج تصب في خدمة المستهلكين، وفي الأغلب تتركز الفائدة في تحقيق عائدات كبيرة لصالح المساهمين والمستثمرين في شركات المياه، فخلال 12 عاما وحتى 2021 حققت تسع شركات للمياه والصرف الصحي في إنجلترا أرباحا بمعدل 1.8 مليار جنيه استرليني سنويا، وبلغت رواتب بعض كبار المسؤولين فيها 3.1 مليون جنيه استرليني سنويا.
كما أن تخصيص شركات المياه في الأغلب ما يترافق مع زيادة الأسعار باعتبارها الوسيلة الأسهل للشركات لتعظيم أرباحها، إذ أدى تخصيص المياه في إنجلترا وويلز إلى زيادة الأسعار بنسبة 102 في المائة، كما أن هناك عديدا من المشكلات الاجتماعية والصحية التي يمكن أن تتعرض لها الفئات الدنيا من المجتمع، نظرا إلى عدم قدرتها على تحمل تكاليف فواتير المياه، ففي بوليفيا أدى تخصيص شركات المياه إلى أن تمثل فواتير المياه والصرف الصحي للعائلات الفقيرة نحو 25 في المائة من الميزانية الشهرية لها.
في هذا السياق، أوضح الباحث في شؤون البيئة إل. دي. ريمون، أن الأصوات المتعالية بضرورة تخصيص شركات المياه تعمل وفق الإيديولوجية النيوليبرالية، حيث يتم استبعاد الدولة من النشاط الاقتصادي والعمل بحكومات صغيرة الحجم، وخفض إن لم يكن إلغاء الضرائب على الشركات، وإخضاع القطاع العام لقواعد الربح والخسارة وتهميش الدور الاجتماعي له.
ويقول لـ"الاقتصادية": "إن كثيرا ما يؤدي تخصيص المياه إلى فقدان العمالة، ويمكن أن تصل تكاليف العمالة إلى 50 في المائة من نفقات الميزانية التي تديرها شركة مياه خاصة، وخفض مستويات التوظيف طريقة سهلة لزيادة الأرباح وخفض التكاليف في الوقت ذاته".
ويؤكد أن الرغبة في تحقيق معدلات ربح عالية يدفع بالشركات الخاصة إلى توسيع نطاق أصول المياه العذبة، وفي الأغلب لا ينعكس ذلك على خفض أسعار المياه، وإنما رغبة في تصديرها إلى خارج مناطق عمل الشركات الأصلية، وهذا المنطق يؤدي في كثير من الأحيان إلى الإخلال بالتوازن البيئي لصالح الأرباح.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات