آراء متناقضة حول الطلب على النفط ورسالة أوباما النفطية
ما الطلب على النفط عام 2009؟ الهيئات والمؤسسات المتخصصة لديها إجابات بعددها، وبفارق كبير بينها. وقبل الخوض في هذا الموضوع الشائك أود أن أذكر القراء بما قرأوه سابقا في هذا الركن وهو أن نتائج استبيان شركة بلومبرج الذي يرسل إلى نحو 45 خبيرا وتاجرا أسبوعيا لمعرفة توقعاتهم لأسعار النفط في الأسبوع التالي أثبت صحة التوقعات 50 في المائة فقط، وذلك على مدى سنوات طويلة. هذا يعني أن توقعات الخبراء مماثلة لقيام طفل بتوقع أسعار النفط بناء على اختيار أحد وجهي العملة المعدنية بعد رميها في الهواء. ولكن لا شك أن بعض هؤلاء الخبراء كانوا أفضل من غيرهم، خاصة أن عمليات التوقع فن وخبرة في الوقت ذاته، وليست مجرد رأي. هذه التوقعات، حتى الخاطئة منها، مبنية على دراسات وتحليلات ومتابعة مستمرة للأخبار التقنية والسياسية والاقتصادية والطبيعية.
تقديرات الانخفاض الحالية
أسهم الكساد العالمي في تخفيض الطلب على النفط بشكل كبير خاصة في الربع الأخير من العام الماضي والربع الأول من العام الحالي. المشكلة أن توقعات الانخفاض خلال الأشهر المقبلة، ولعام 2009 ككل، تختلف عن بعضها اختلافا جذريا، الأمر الذي يصعب فيه معرفة الفترة التي ستنتعش فيها صناعة النفط العالمية مرة أخرى. هذا الاختلاف، وبالتالي الضبابية المحيطة بمستقبل الطلب، مفيدة ومضرة في الوقت نفسه، ومن أضرارها ارتفاع مستوى المخاطرة والتوقف عن الاستثمار في الصناعة حتى تتضح الصورة. ولكن تأخر هذه الاستثمارات يعني مزيدا من الذبذبة والتقلبات لأن الانتظار حتى تتضح الصورة يعني عدم مقابلة العرض للطلب، وبالتالي ارتفاع الأسعار بشكل كبير خلال فترة وجيزة.
يوضح الشكل البياني المرفق توقعات الهيئات المختلفة لانخفاض الطلب العالمي على النفط عام 2009، كما يوضح الفروق الكبيرة بينهما. ويبدو الفرق واضحا بين أهم ثلاث هيئات وهي "أوبك"، وإدارة معلومات الطاقة في وزارة الطاقة الأمريكية، ووكالة الطاقة الدولية، حيث تتوقع "أوبك" انخفاض الطلب على النفط بمقدار 1.6 مليون برميل يوميا، وتتوقع إدارة المعلومات انخفاض الطلب بمقدار 1.8 مليون برميل يوميا، بينما ترى وكالة الطاقة الأمريكية انخفاض الطلب بمقدار 2.6 مليون برميل يوميا. وإذا نظرنا إلى مراكز البحوث والمؤسسات الاستشارية وبيوت المال لوجدنا أنهم لا يتفقون مع أي من هذه الهيئات, حيث ترى شركة دبيليو إيتش بي الاستشارية أن الطلب على النفط سينخفض بمقدار 185 ألف برميل فقط، بينما يرى الدتشة بانك أن الطلب سينخفض بأضعاف ذلك, حيث سينخفض بمقدار 2.2 مليون برميل يوميا. أما ريموند جيمس، وهو أحد بيوت المال الأمريكية، فإنه يتوقع انخفاض الطلب على النفط بمقدار ثلاثة ملايين برميل يوميا.
توقعات الهيئات المختلفة لانخفاض الطلب على النفط عام 2009
المصدر: تقارير الهيئات المذكورة.
يتضح من الشكل البياني أن هناك آراء متناقضة، وبفارق شاسع، الأمر الذي يزيد من ضبابية المستقبل، ويجعل من الصعب على الحكومات والشركات الاستثمار في الوقت المناسب. وإذا نظرنا إلى ارتفاع أسعار النفط أخيرا فإننا أمام أمرين لا ثالث لهما: إما أن ارتفاع أسعار النفط في الفترات الأخيرة يعود إلى أساسيات السوق، وبالتالي فإن توقعات "أوبك" وما دونها أقرب إلى الصحة من غيرها، وإما أن الارتفاع الأخير في الأسعار يعود إلى المضاربات كما يدعي البعض، الأمر الذي يؤيد توقعات وكالة الطاقة الدولية والدتشة بانك وريموند جيمس. إنه من غير المنطقي أن تقوم "أوبك" بلوم المضاربين في الوقت الذي تتوقع فيه أن يكون انخفاض الطلب بمقدار 1.6 مليون برميل يوميا، خاصة بعد أن خفضت الإنتاج بشكل جعل المعروض العالمي من النفط أقل من الطلب حاليا. وتشير توقعات "أوبك" إلى أن الإنتاج العالمي سيبقى أقل من الطلب حتى نهاية العام، الأمر الذي سينتج عنه حتميا انخفاض المخزون التجاري في الدول المستهلكة, وبالتالي ارتفاع أسعار النفط. بعبارة أخرى، إذا اقتنعنا بأرقام "أوبك", فإن ارتفاع أسعار النفط أخيرا هو نتيجة حتمية لقوى السوق، وما دخول المضاربين للسوق إلا لأنهم رأوا ما تراه "أوبك".
بالطبع, فإن لكل توقع انعكاساته الخاصة على السوق. مثلا، توقعات ريموند جيمس بانخفاض الطلب على النفط بمقدار ثلاثة ملايين برميل يوميا تتطلب قيام "أوبك" بتخفيض آخر لمنع الأسعار من الانخفاض. ولكن الأسعار، كما يعلم الجميع، تقترب من 70 دولارا للبرميل. أين الخطأ إذا؟ وإذا كان توقع مركز دراسات الطاقة العالمية صحيحا في أن الطلب سينخفض بمقدار مليون برميل يوميا، أو التوقعات الأخرى التي أقل من ذلك، فإن التخفيض الذي قامت به "أوبك" كان أكبر من اللازم، وعلى "أوبك" زيادة الإنتاج في أسرع وقت ممكن.
ولن نعرف الأرقام الفعلية إلا في نهاية العام، وسنعرف عندها مدى صواب تصرفات "أوبك". المشكلة التي يناقشها الاقتصاديون الآن هي أن ارتفاع أسعار النفط الحالي قد يؤخر انتعاش الاقتصاد العالمي، وسيعطي دعما سياسيا كبيرا لسياسات الرئيس الأمريكي باراك أوباما الداعية للتقليل من الاعتماد على النفط، والقائمة على تطوير مصادر بديلة له. في هذا السياق، لا بد من الحديث، ولو بشكل مقتضب، عن زيارة الرئيس أوباما للسعودية.
زيارة أوباما للسعودية والنفط قام، وسيقوم، عدد من الكتاب بالتعليق على زيارة أوباما وسيربطون بينها وبين النفط. وهنا لا بد من توضيح النقاط التالية، التي محورها أن "النفط" ليس المحور الرئيس للزيارة:
1- ما من رئيس أمريكي يلتقي ملكا سعوديا إلا وسيقول الرسالة النفطية نفسها التي كررها الرؤساء كلهم بهدف الاستهلاك المحلي داخل الولايات المتحدة، وكل ما سيتحدث عنه أوباما فيما يتعلق بالنفط يجب النظر إليه من هذا المنظور، ولن يكون له أي أهمية.
2- سياسات أوباما تجاه النفط لن تتغير بمجرد زيارته السعودية، ومن الواضح أن آخر ما يهم أوباما في هذه الزيارة هو النفط. فلو كان السبب هو النفط لألقى كلمته في الرياض، وليس في القاهرة. لو كان السبب هو النفط لكانت الزيارة خاصة لدول النفط فقط.
3- سياسات أوباما المعادية للنفط ليست سياساته الشخصية فقط، وإنما تلقى دعما واسعا من كلا الحزبين، لذلك فإن الأمور لن تتغير بمجرد إقناع شخص واحد، إن اقتنع.
4- سيركز أوباما على رسالة نفطية مفادها أن هناك مصلحة مشتركة بين السعودية والولايات المتحدة في أمرين، استقرار أسعار النفط وبقاء الأسعار في مستويات معتدلة لأن الأسعار المرتفعة ليست في مصلحة السعودية على المدى الطويل. رسالة أوباما ما هي إلى ترديد لما قاله المسؤولون السعوديون خلال العقود الثلاثة الماضية.
باختصار، أتمنى ألا يحمّل الكتاب والمعلقون كلام أوباما عن النفط أكثر مما يحتمل، نحن أكثر من نفط، وهناك أمور أهم من النفط.