مهمة تنتظر الإنجاز في مجال دراسة الحركات الإسلامية
بدا واضحاً أنه بالرغم من التزايد الشديد في الاهتمام الأكاديمي والإعلامي والسياسي بالظاهرة الإسلامية خلال الأعوام الأخيرة، وبخاصة تلك التي تلت هجمات 11 من أيلول (سبتمبر) على نيويورك وواشنطن عام 2001، إلا أن هذا الاهتمام غير المسبوق لم تترافق معه محاولات تسعى للتعرف على أبرز مكونات تلك الظاهرة وأكثرها إثارة للجدل، أي الحركات الإسلامية، بصورة تتفق وما يسعى إليه البحث والتحليل العلمي، أي التوصل لأدق تعريفات ممكنة لها وتصنيفات لفئاتها وأنواعها بما يمكن من دراساتها بأكبر قدر ممكن من الموضوعية والحياد العلمي. وظل الاهتمام البحثي والإعلامي والسياسي بتلك الحركات الإسلامية ذات العلاقة بالسياسة بتعريفها الواسع منصباً عليها بصورة فردية وجزئية أو بصورة يشوبها التعميم، حيث بدت في النهاية وكأنها تأخذ أحد شكلين: إما أنها حركات وجماعات منفصلة عن بعضها بعضا ولا توجد بينها علاقات أو خصائص مشتركة، وإما أنها تتسم بالخصائص العملية نفسها والأفكار النظرية بما يضعها جميعاً ضمن كتلة صماء هي "الحركات الإرهابية العنيفة" حسب المصطلحات التي سادت بعد هجمات أيلول (سبتمبر). كما بدا واضحاً أن جزءاً كبيراً من ذلك الاهتمام قد تركز على تلك النوعية الأخيرة من الحركات الإسلامية، أي العنيفة والمتشددة، بالرغم من نسبتها الضئيلة بالقياس إلى الحركات الأخرى السلمية – على تفاوت أنواعها وأحجامها – والتي تمثل على المستوى العالمي الكتلة الأكبر والأهم من الحركات الإسلامية.
وغاب في ظل ذلك التركيز الفردي والجزئي أو التعميم وجود جهد بحثي يسعى للتراكم ويضع أسساً نظرية وإجرائية لتعريف مختلف أنواع الحركات الإسلامية ورسم خريطة لها على مستوى العالم، بما يساعد على فهم أدق لأفكارها وأفعالها ومواقفها، وأهم من ذلك توقع ما قد تتبناه من أفكار أو تتخذه من أفعال ومواقف في المستقبل تجاه عديد من القضايا الخارجية المهمة التي يمر بها النظام الدولي والقضايا الداخلية التي تشهدها الدول التي توجد فيها تلك الحركات. من هنا بدا أن هذا الغياب الواضح والمخل في الأدبيات العربية والأجنبية – سوى مجهودات فردية قليلة هنا أو هناك – لخريطة دقيقة وتعريفات علمية للحركات الإسلامية يحتاج بالفعل إلى جهود منظمة ومتواصلة من الباحثين المنتمين للعالمين العربي والإسلامي للتوصل إلى تلك الخريطة المعرفية للحركات الإسلامية والفوارق الدقيقة أو الكبيرة التي توجد بينها. ولا شك أن بعض تلك الجهود العلمية قد بذل من عدد من الباحثين العرب والمسلمين في خلال السنوات الماضية ونشر سواء في بلدانهم أو في بعض البلدان الغربية ضمن مشروعات بحثية خصصت لهذا الغرض بصورة محددة. إلا أن تأمل تفاصيل الإنتاج العلمي الجاد حول الحركات الإسلامية في مختلف دول العالم، بما فيها الدول العربية والمسلمة، يوضح أن مهمة التصنيف والتوضيح الدقيق لملامح مختلف الحركات الإسلامية بما يوصل لخريطة حقيقية وعلمية لها لا تزال لم تنجز بعد على النحو الذي يتطابق مع المعايير العلمية في البحث والدراسة أو يتناسب مع الأهمية التي راحت تلك الحركات تأخذها يوماً بعد آخر في التطورات الدولية والمحلية في الدول التي توجد فيها.
والأكثر أهمية اليوم في السعي نحو رسم تلك الخريطة العلمية المعرفية هو أن تكون قابلة وقادرة عند التوصل إليها على أن يتم تطبيق التعريفات والفئات والخصائص الواردة فيها على مختلف الحركات الإسلامية الموجودة في معظم مناطق العالم ودوله، حيث تكون بمثابة دليل دقيق للتعرف عن قرب على تلك الحركات بصورة كافية، دون الإغراق في التفاصيل متناهية الصغر أو التعميمات فاقدة المعنى. ويتضمن ذلك أن يتم التعرف على مختلف أنواع الحركات الإسلامية من مختلف الجوانب التي تتشكل منها وفي مقدمتها تلك المتعلقة بأبعاد نشأتها التاريخية ثم بعد ذلك الجوانب ذات العلاقة بأنشطتها العملية والحركية. ولا شك أن قوة أي خريطة علمية للحركات الإسلامية ترتبط أيضاً بقدرتها على إيضاح الحدود الدقيقة الفاصلة بين الأفكار والرؤى التي يقوم عليها النشاط الحركي العملي للحركات الإسلامية بمختلف فئاتها وأنواعها، حيث إنها تمثل في كثير من الحالات القاعدة الحقيقية لمعظم الاختلافات والخلافات الحركية العملية التي توجد فيما بينها. ويأتي بعد ذلك مكون مهم في تلك الخريطة التي يجب السعي الدءوب لرسمها وهو المتعلق بالتعرف الدقيق على بعض القيادات الحركية والفكرية التي لعبت – ولا يزال بعضها يلعب – أدواراً حاسمة في تطور الحركات الإسلامية في مختلف دول العالم، بحيث يتم اختيارها حسب معيار تأثيرها الفكري أو الحركي – أو الاثنين معاً – المؤكد والقوي على بعض الحركات الإسلامية لفترة طويلة من الوقت، وبما يشمل جوانب من سيرتها الذاتية مع تركيز أكبر على الجوانب الفكرية أو الحركية التي تتسم بها كل منها.
إن بناء مثل تلك الخريطة يجب أن يكون اليوم هو الأولوية الرئيسة للباحثين المتخصصين في الظاهرة الإسلامية من أبناء العالمين العربي والإسلامي لإعادة تقديم تلك الظاهرة وفي قلبها الحركات الإسلامية بالصورة الواقعية والعلمية التي هي عليها وليس كما تظهر اليوم مشوبة بالغموض أو الهوى أو الجهل في كثير من الأحيان. وبجانب ذلك فإن بناء تلك الخريطة سوف يسهم مع جهود بحثية وأكاديمية أخرى سابقة عليه وتالية له في بناء مدرسة عربية وإسلامية متخصصة في دراسة الظاهرة الإسلامية بكافة تجلياتها وجوانبها، عساها أن تقدم فهماً أدق وأشمل لتلك الظاهرة وتسد الفجوات التي تركتها وراءها المدارس الأخرى في سعيها لهذا الفهم.